منصة ثقافية أدبية

سيلفي مع نيتشه


بتاريخ يونيو 2, 2025 | في مقالات

المشاهدات : 321


محمد الكلابي

ثمّة شيء مريب في وفرة الثقافة اليوم

كل شيء يوحي بأننا نعيش صحوة فكرية: الكتب تتكاثر، الندوات لا تنقطع، الشاشات تنطق بالفلاسفة، والمصطلحات الثقيلة تتداول على ألسنة الجميع. لكن، خلف هذا الضجيج المترف، يهمس سؤال غائر:

هل نعيش وعيًا حقيقياً؟ أم نعيش تمثيلاً له؟

هل أصبحت الثقافة، التي كانت تُنتزع من الألم، مجرد واجهة لامعة تُركّب على الذات كما يُركّب فلتر على صورة؟

ربما لم تعد الثقافة وسيلة لفهم الذات، بل أداة لتزيينها. نمارسها لا لنقترب من الداخل، بل لنُعرض على الخارج. نقرأ، لا لأن شيئًا يحترق فينا، بل لأننا نُجيد الظهور. وهنا تبدأ المفارقة المريرة.

فما يبدو من حراك ثقافي، قد لا يكون أكثر من عرض مبهر لوعي مزيّف.

المشهد الثقافي المعاصر لا يبدو فقيراً، بل فائق النشاط. الرفوف تمتلئ، والكتب تُصوَّر، والأفلام تُناقش، والاقتباسات تُساق كما تُساق العطور. فولتير، نيتشه، بودريار، ماركس… يتحولون إلى ملصقات ذكية في حسابات التواصل الاجتماعي. نُتابع المفكرين كما نتابع المؤثرين. نقرأ العناوين كما نقرأ الأسعار. كل شيء متاح، لكن أي شيء حقيقي؟

الثقافة اليوم تمشي على المدرج، بكعب عالٍ، تحمل ماركة “المثقف الواعي”. كثير من الأفعال التي تبدو ثقافية، لا تصدر عن حاجة داخلية، بل عن وظيفة خارجية. صورة قارئ بجانب فنجان قهوة. تعليق على فيلم لم يُشاهد كاملاً. اقتباس من “ما وراء الخير والشر” يتوسط منشوراً عن العلاقات. لا بأس بالمظاهر، لكن الكارثة حين تبتلع الجوهر. حين يصبح حضور ندوة ثقافية لا يختلف عن حضور عرض أزياء: كلاهما يُثبت أننا كنا هناك. لا أحد يسأل: ماذا أخذت؟ بل فقط: هل ظهرت؟

القراءة كانت فعل قلق، لا عادة للطمأنينة. كانت تصدر عن صرخة لا تُسمع إلا في الداخل. اليوم، كثيرون يقرأون كما يمارسون رياضة الجري: ليُقال إنهم يفعلون. ليس لأنهم لا يستطيعون التوقّف، بل لأنهم يخافون من التوقف عن الظهور. المعرفة، التي كانت ثقيلة، أصبحت خفيفة بما يكفي لتُحمل على الكتف كحقيبة. لا تؤلم، لا تُشظّي، لا تغيّر. ننتقل من كتاب لآخر كما ننتقل من مقهى لآخر. التجربة لا تعنينا، بل سجلّ التجربة هو ما يهم.

وسائل التواصل الاجتماعي عمّقت هذا التمثيل الرمزي للفعل الثقافي. لم نعد نقرأ لأن الكتاب نادانا، بل لأن الكاميرا تنتظر لقطة. Goodreads لم يعد مساحة تأمل، بل حلبة استعراض. كل مراجعة قصيرة ومشحونة بإعجاب شديد أو نفور مصطنع. لا منطقة رمادية، لا حيرة، لا ارتباك. والكتاب؟ صفحة في “ستوري” تُنسى في ٢٤ ساعة. حدث ثقافي جديد؟ نرتاده، نلتقط، ننشر، نغادر. لا نصمت بعدها، لا نعود لشيء مما قيل. نمارس الثقافة كما نمارس الفلترة: نُزيل الشوائب، نحتفظ بالسطح الجميل، نرمي العمق.

هربرت ماركوزه، أحد عقول مدرسة فرانكفورت، تحدث عن الاستيعاب الثقافي: كيف يُفرّغ النظام الرأسمالي الأفكار الثورية من جوهرها، ليحوّلها إلى منتجات غير مهددة. المفكر الذي كان يقلق، يُعاد تصنيعه كرمز أنيق. الكتاب الذي كان يُحرق في الأزمنة القمعية، يُباع اليوم في نسخ فاخرة، لكنه لا يُقرأ. المعنى الذي كان يوقظ، يصبح زينة لا تؤذي. هذه ليست مفارقة، بل استراتيجية باردة لترويض العقل تحت غطاء الثقافة.

نحن لا ننتج الثقافة، بل نستهلكها. لا نهضمها، بل نعرضها. لا نتألم بها، بل نتزيّن بها. شيئاً فشيئاً، تصبح الثقافة غلافاً ناعماً يخفي خواء داخلياً. نبدو أذكياء، بلا أن نكون قد فكرنا فعلاً. نبدو مطلعين، بلا أن نكون قد خضنا رحلة الإدراك. نعيش وهم الفهم، في حين أننا نتقن فقط التكرار الذكي.

وهنا تكمن المأساة: حين تُستهلك الثقافة أكثر مما تُنتَج، لا تزداد المجتمعات وعياً… بل تزداد وهماً بأنها واعية. وكلما تزيّنا بالمعرفة، زاد بعدنا عن جوهرها. وكلما اقتبسنا أكثر، قرأنا أقل.

في النهاية، لا شيء أخطر على الوعي… من محاكاته.

 

 

الوسوم: