فاروق الرماحي
لم تولد القضية الكردية مع الدولة العراقية ولا يمكن اختزالها في صراع سياسي عابر أو تمرّد مسلح ضد سلطة مركزية. فالكرد، بوصفهم شعبًا ضاربًا في عمق التاريخ، وجدوا أنفسهم مع مطلع القرن العشرين ضحية نظام دولي أعاد رسم الخرائط دون أن يعترف بالإنسان الذي يسكنها .
ينتشر الكرد جغرافيًا في رقعة واحدة متصلة تقطّعت أوصالها بين أربع دول العراق وتركيا وإيران وسوريا. ولم يكن هذا التقسيم نتيجة صراع كردي داخلي بل حصيلة مباشرة لاتفاقيات دولية صنعت دولًا قومية على مقاس المصالح الاستعمارية لا على أساس التعدد القومي أو الحق التاريخي للشعوب .
مع انهيار الدولة العثمانية راود الكرد مثل غيرهم من شعوب المنطقة حلم الدولة المستقلة . وظهرت وعود مبكرة، أبرزها ما تضمّنته معاهدة سيفر عام 1920 لكن هذه الوعود لم تصمد طويلًا . سرعان ما تخلّى المجتمع الدولي عنها ليُترك الكرد موزعين بين دول حديثة التكوين لا ترى فيهم شركاء بقدر ما تنظر إليهم كأقليات يجب ضبطها أو صهرها .
في هذا السياق، نشأت الدولة العراقية الحديثة عام 1921 لا بوصفها دولة مواطنة بل ككيان سياسي هشّ أدارته النخب العسكرية والإدارية بعقلية مركزية صارمة . ورث العراق مثل غيره من الدول العربية الناشئة. إشكالية التعدد القومي دون أن يمتلك أدوات إدارتها . فبقي الكرد كما الآشوريون والتركمان وسواهم خارج المعادلة الحقيقية للسلطة وإن حضروا شكليًا في خطابها .
لم يكن الإقصاء وحده هو المشكلة، بل غياب الاعتراف . فالدولة العراقية في صيغتها الأولى لم تعترف بالكرد بوصفهم شركاء متساوين في الوطن، بل تعاملت معهم كملف أمني أو ورقة تفاوض تتبدّل مقاربتها بتبدّل الحكومات والظروف الإقليمية . وهكذا تراكم الإحباط وتحوّل الحلم القومي من مشروع ثقافي وسياسي إلى سلسلة تمرّدات غالبًا ما كانت تُقمع بالقوة أو تُحتوى بالوعود .
ومع ذلك فإن اختزال العلاقة بين الكرد والدولة العراقية في ثنائية الضحية والجلاد يظل تبسيطًا مخلًا .
فالقضية الكردية لم تكن يومًا معزولة عن حسابات الإقليم وصراعات القوى الدولية . كما أن قياداتها في كثير من المراحل وجدت نفسها طوعًا أو اضطرارًا جزءًا من لعبة المحاور ما جعل القضية أحيانًا أداة ضغط أكثر منها مشروع تحرر وطني متكامل .
إن فهم الجذور التاريخية للقضية الكردية لا يعني تبرير كل ما جرى لاحقًا باسم المظلومية كما لا يجيز إنكار ما تعرّض له الكرد من تهميش وقمع . لكنه شرط أساسي لفهم ما آلت إليه الأمور كيف تحوّل شعب بلا دولة إلى قضية مفتوحة ثم كيف بدأت هذه القضية في مراحل لاحقة تنزلق من فضاء الحقوق إلى دهاليز السلطة .
