منصة ثقافية أدبية

في فلسفة الدولة / محمد عبد الجبار الشبوط


بتاريخ أغسطس 30, 2025 | في مقالات

المشاهدات : 42


منذ نشأة الدولة في التاريخ البشري، اتخذت الدولة أشكالًا شتى، اختلفت في وظائفها وغايَاتها وأساليبإدارتها. لكنّ إحدى أخطر صور الدولة التي ابتُليت بها مجتمعاتنا، هي ما يمكن تسميته بـالدولةالغنائمية، أي الدولة التي تُختزل إلى وسيلة لتقاسم النفوذ والثروة بين الجماعات المتنافسة، فتتحوّلإلى ساحة صراع لا إلى حاضنة عدل وتنمية.

الدولة الغنائمية لا تقوم على فكرة الصالح العام، بل على منطق الغنيمة، حيث تنظر الجماعاتدينيةأو طائفية أو قومية أو حزبيةإلى الدولة بوصفها غنيمة يجب الاستحواذ عليها أو على جزء منها. الوزارات، المناصب، العقود، وحتى السياسات، تصبح حصصًا تتقاسمها الأطراف القوية وفق ميزانالقوى، لا ميزان القيم أو الكفاءة أو المصلحة العامة.

هذه الدولة لا تُدار كمؤسسة، بل كمزرعة، ولا تُبنى على المواطنة، بل على الولاءات، ولا تنتج تنمية، بلفسادًا، وهدرًا، وتعطيلًا دائمًا لمقدرات المجتمع. ومن داخلها، تتآكل الثقة، وتتفكك الهوية الوطنية،ويضعف الانتماء، وتتفجر الأزمات.

في المقابل، تطرح الدولة الحضارية الحديثة رؤية مغايرة تمامًا، تقوم على أن الدولة ليست ملكًا لأحد، بلهي إطار مؤسسي قيمي لخدمة جميع المواطنين على قدم المساواة، بصرف النظر عن انتماءاتهم أوخلفياتهم. الدولة الحضارية ليست غنيمة بل أمانة، ليست ساحة صراع بل حقل تكامل، وليست وسيلةللسيطرة، بل وسيلة للرقيّ الجمعي.

فلسفة الدولة الحضارية تنبع من الفهم القيمي للوجود البشري، حيث الإنسان ليس مجرد كائنبيولوجي، بل فاعل أخلاقي مكلف بإعمار الأرض وفق منظومة قيمية عليا. وبناءً على ذلك، فإن مؤسساتالدولة يجب أن تكون مرآة لهذه القيم: العدالة، الكفاءة، الشفافية، الرحمة، الإحسان، المشاركة.

في الدولة الحضارية، يُنظر إلى المنصب بوصفه وظيفة لا امتيازًا، وإلى السلطة بوصفها مسؤولية لامغانم، وإلى الخدمة العامة بوصفها عبادة لا تجارة. ويتحول المواطن من متسوّل للحقوق إلى شريك فيصناعة القرار، ومن تابع لزعيم إلى فاعل حضاري في بناء الدولة.

إن التحوّل من الدولة الغنائمية إلى الدولة الحضارية ليس انتقالًا في الشكل فقط، بل هو تحوّل جذريفي فلسفة الدولة ذاتها، من الانغلاق إلى الانفتاح، من النهب إلى البناء، من التحاصص إلى التكامل، منالرغبة في السيطرة إلى الرغبة في الخدمة.

ولهذا، فإن بناء الدولة الحضارية الحديثة هو ليس مشروع إصلاح سياسي فقط، بل مشروع تحوّل أخلاقيوثقافي وقيمي، يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والسلطة، ويمنح للمجتمع معنى جديدًا للعيشالمشترك تحت مظلة دولة تمثّل الجميع وتنتمي إلى الجميع.

الوسوم: