محمد الكلابي
حين يعلو ضجيج المساومات على صدى الحق، ويصبح البقاء مرادفاً للانحناء، تنهض ثورة الإمام الحسين عليه السلام كصرخة مدوية تمزق سكون الخوف وتكشف زيف كل براغماتية تبرر الدناءة بالضرورة. أي فلسفة هذه التي تعلّم الإنسان أن يتخلى عن مبادئه كي يضمن عمراً أطول؟ وأي حكمة تلك التي تقدس العروش حتى لو بُنيت على جماجم المظلومين؟ هنا يقف الإمام الحسين عليه السلام، لا كقائد عادي، بل كفلسفة حية تقول: الكرامة هي الحياة، ومن يبيعها ليشتري بقاءً زائفاً يموت قبل أن يُدفن. فهل نجرؤ اليوم على قراءة ثورته كأعظم تحدٍّ لفكرة “الغاية تبرر الوسيلة”، ونفهم أن الثبات على المبدأ يصنع المجد الذي لا تهدمه السنون؟
إن فكرة ميكافيلي في كتابه الأمير اختزلت السياسة كلها في نصيحة قاسية: إذا أردت البقاء في السلطة، فلا تتردد في استخدام الكذب والقسوة والخديعة وكل وسيلة قذرة، فالغاية العظمى هي السلطة، وأي مبدأ أو قيمة مجرد قيد يجب كسره إن أعاق طريق البقاء. هذه الفكرة لم تكن نظرية عابرة، بل تحولت إلى أداة عملية للظالمين قديماً وحديثاً، يستخدمونها لتبرير قسوتهم أمام شعوبهم، يبيعون أخلاقهم بثمن كرسي زائل، ويبنون حكمهم على الخوف.
لكن ثمة رجلاً خرج من بيت النبوة ليفضح هذا المنطق بكلماته وأفعاله، حين وقف الإمام الحسين عليه السلام في مواجهة نظام جسّد فلسفة ميكافيلي بأبشع صورها، إذ استخدم يزيد كل وسيلة لشراء صمت الناس وخضوعهم: التهديد والترغيب والدعاية الكاذبة. وحين عرض على الحسين المساومة لينجو بحياته مقابل بيع مبدئه، اختار الإمام طريقاً يدرك نهايته، لكنه آثر أن يثبت للناس أن القيم لا تفاوض، وأن حياة بلا مبدأ ليست سوى موتٍ مؤجل.
هكذا جاءت ثورته نقضاً عملياً لفكرة ميكافيلي؛ إذ قدّم مثالاً حياً يقول إن الوسيلة الخبيثة، مهما بدت ذكية، تُفسد الغاية وتجعلها قبيحة، وإن النصر الأخلاقي قد يهزم النصر العسكري إذا تجذر في ضمير الأجيال. إن مبدأ ميكافيلي يخلق مجتمعات خائفة تُقدّس الأقوياء، وتتنازل عن القيم كلما زادت قوة الظالم. بينما مبدأ الحسين عليه السلام يصنع أمة لا تنكسر أمام التهديد، لأنه يزرع في قلوبها إيماناً بأن الحق أغلى من كل شيء، وأن الهزيمة قد تكون أعظم من النصر إن أيقظت الضمائر. هذه المقارنة عادلة وعميقة، لأنها تجمع بين فلسفة جعلت السلطة غاية مطلقة، وثورة تجسدت في إنسان رفض المساومة على الحق ولو كلفه حياته؛ فالمواجهة هنا مواجهة قيمتين تحددان مصير الأفراد والمجتمعات: هل يعيش الناس عبيداً للواقعية الزائفة، أم أحراراً بالمبدأ الأصيل؟
إن من يراجع التاريخ يجد كيف استُخدمت فلسفة ميكافيلي لتبرير قمع الشعوب والسطو على إرادتها، من عصور الملوك الإقطاعيين إلى دكتاتوريات اليوم التي تتزين بالديمقراطية المزيفة. حيث يروّج الحكام لأنفسهم باعتبارهم صمام الأمان الذي يبيح لهم فعل أي شيء بحجة حماية الدولة. وهكذا تُسحق القيم تحت عجلات الخوف، ويُصبح الكذب شطارة سياسية. في المقابل، أثبتت ثورة الإمام الحسين عليه السلام أن صمود الإنسان على الحق يصنع مجداً لا ينكسر، وأن من يزرع في الأمة معنى الكرامة يخلّد اسمه في التاريخ حتى لو سقط جسده على تراب المعركة. ومن هنا، في زمنٍ تُسوّق فيه الأفكار الرمادية، وتُجمَّل البراغماتية تحت مسمى الذكاء السياسي، يطلُّ علينا رجلٌ من عمق التاريخ ليعلن بدمه الكرامة أغلى من العروش، والمبدأ أثمن من حياة بلا معنى. في كربلاء، لم يواجه الإمام الحسين جيشاً فقط؛ بل واجه فلسفة متجذرة في السياسة منذ قرون تقول إن الغاية تبرر الوسيلة. فأثبت للعالم أن بعض المبادئ تصنع خلوداً يتجاوز كل حسابات السلطة. فهل نحن اليوم بحاجة لإعادة فهم ثورة الحسين كنقد فلسفي عميق لمنطق ميكافيلي؟ وهل يمكن لقيم كربلاء أن تهزم براغماتية العصر؟
