محمد الكلابي
في زمنٍ تتسارع فيه اللحظات إلى حد يبدّد القدرة على التماس مع الذات، باتت الهوية الإنسانية سلعة تتشكل وفق إملاءات خوارزميات لا ترى في المرء سوى وحدة استهلاك قابلة للتشكيل المستمر. لم تعد الهوية تذوب فحسب كما وصف زيجمونت باومان في “الحداثة السائلة”، بل تجاوزنا حدود السيولة لنبلغ مرحلة التبخّر، حيث تُستبدل ملامح الإنسان بموجات من الصور والانطباعات اللحظية التي لا تعرف الاستقرار. أصبح كل واحدٍ منّا مدفوعاً لصناعة أقنعة متجددة كي يضمن مكانه في فضاء لا يعترف إلا بما هو متحول وعابر، فصارت الذات تُختزل في ردود أفعال متسارعة تتلاشى قيمتها فور انقضاء لحظتها.
في هذا العصر، لم تعد التعددية في الهويات مؤشراً على الغنى الداخلي، بل صارت دلالة صارخة على فقدان الجذور؛ إذ يُضطر الإنسان لتقديم ذاته في كل منصة بوجه مختلف ينسجم مع شروط جمهور متقلب، فيتقمص قناعات متناقضة دون وعي، ويحوّل التناقض إلى سلوك يومي ضروري للبقاء في دائرة الضوء. يصبح التبدل المستمر طقسًا قسرياً لإثبات الوجود، فلا يعود الثبات إلا تهمة بالجمود، ولا يُرى الالتزام بقيمة واحدة سوى علامة على التخلف عن ركب السرعة.
أما طوفان المحتوى الذي يغمر الوعي بلا انقطاع، فيحرم العقل من أبسط شروط الفهم والتأمل؛ فالخبر لا يكتمل قبل أن يُدفن تحت خبر أحدث، والانفعال لا ينضج قبل أن يُستبدل بانفعال أكثر إثارة. تتحول التجارب والمشاعر إلى ومضات مبتورة، فلا تُبنى ذاكرة متماسكة، ولا تتراكم رؤية واضحة. إن هذا الإيقاع المحموم يفرز إنساناً مفككا، عالقاً في حاضره اللحظي، غريباً عن ماضيه، فاقداً لأي تصور متماسك عن مستقبله.
ويمتد هذا التفكك إلى علاقتنا بأنفسنا؛ فالارتباط المتواصل بالشاشات لا يربطنا بالعالم بقدر ما يقطعنا عن دواخلنا، فنستسلم لزخمٍ من التسلية الرقمية التي تبدو أداة للهروب من الملل، لكنها في جوهرها هروب من مواجهة أسئلة الذات. نملأ الصمت بإشعارات متتابعة كي لا نسمع صدى أرواحنا؛ نبحث عن أي شيء يبدد لحظة مواجهة الفراغ المروع الذي يفضح هشاشة انتمائنا إلى أنفسنا.
في خضم هذا، تتحكم الخوارزميات بسيرورة بناء الهويات عبر تغذية عقولنا بما يزيد تعلقنا بشاشاتنا، فتُعيد ترتيب أولوياتنا لتلائم ما يطيل مكثنا، وتصوغ رغباتنا على مقاس توقعاتها. تصير الذات مجرد نتيجة لتحليلات إحصائية دقيقة، ينخدع صاحبها حين يظن أنه يختار بحرية بينما هو ينقاد بدقة مبرمجة. هذه الآليات لم تعد تعرض العالم لنا، بل أصبحت تصنع العوالم التي نعيش فيها، فتشكّل وعينا وفق مصالحها، وتقودنا دون وعي إلى إعادة إنتاج الهويات التي تخدم تمددها.
ومع ذلك، لا تزال إمكانية استعادة زمام الهوية قائمة لمن يمتلك الجرأة على إيقاف دوامة الانسياق الأعمى؛ حين يختار الإنسان الانسحاب الواعي من سباق الانتباه، ويعيد ترتيب لحظاته لصالح الصمت المتأمل والحوار الصادق مع ذاته، يسترد القدرة على تمييز ما يريد حقاً مما يُراد له أن يريد. وحدها هذه المسافة مع الواقع الرقمي قادرة على كشف التزوير المستتر في طوفان الصور والأفكار، وإعادة بناء ذاتية حرة تقاوم أن تُختصر في رقم أو رد فعل.
ويبقى السؤال الأكثر إيلاماً في قلب هذه العاصفة: هل يمكن أن نصوغ هوية حقيقية في عصر يُلزمنا بإعادة ابتكار ذواتنا كل يوم كي لا نُمحى من الذاكرة الجمعية؟ أم أننا صرنا مجبرين على العيش في صدى هويات مؤقتة تتساقط قبل أن نعرفها؟ لعل أخطر ما يمكن أن ندركه متأخرين هو أننا كنا ننحت أنفسنا بأيدينا وفق معايير لم نضعها، وأننا تنازلنا عن جوهرنا قطرة قطرة حتى غاب عنا من نكون حقاً، واكتشفنا في النهاية أن الهوية الوحيدة التي بقيت لنا هي الفراغ ذاته الذي كنا نهرب منه طوال الوقت.
