منصة ثقافية أدبية

بلاغة الجهل


بتاريخ مايو 27, 2025 | في مقالات

المشاهدات : 162


محمد الكلابي

،الحوار، ذلك الفنّ البشري العريق، لم يُخلق ليكون ساحة قتال ولا ليثبت فيه أحدهم علوّ كعبه على الآخر، بل كان في جوهره بحثًا جماعيًا عن معنى، تقاطعًا للمعرفة، وامتحانًا للنفس قبل الآخرين. إلا أننا اليوم نشهد انهيارًا ناعمًا لهذا البناء الراقي. لم تعد لغة المنطق تُستخدم لإجلاء الحقيقة، بل باتت تُشهر كعصا زائفة، يُلوّح بها الجاهل كأنه حكيم، ويُشهِرها المتذاكي كأنه فقيه في الفلسفة. أسوأ من الجهل، هو الجهل المتأنق؛ حين يتزين الجاهل بمصطلحات لم يقرأ لها أصلًا، ويطلقها في النقاش كما يُطلق الساحر دخانًا ليخفي خواءه.

تبدأ اللعبة حين يتهمك أحدهم بوقوعك في “مغالطة منطقية”، دون أن يُكلف نفسه عناء تحديد اسمها، ولا شرح موضعها، ولا حتى محاولة اقتراح رد بديل. إنه يُلقي بالمصطلح كما تُلقى القنابل الصوتية: لا لتدمير الفكرة، بل لتشتيت الانتباه عنها. هذه ليست ممارسة عقلية، بل تشويش لفظي متخفٍ بلغة نخبويّة. هذه ما يسميه المنطق الكلاسيكي بـ”مغالطة ادعاء المغالطة”—حين يُسقَط برهان، لا لأنه مختل منطقيًا، بل لأن أحدهم ظنّ، بلا برهان، أن فيه خللًا. هنا نحن لا نمارس التفنيد، بل نحترف الإلغاء الصوتي. جون لوك قالها ببساطة مرعبة: “من لا يستطيع الرد على الحجة، يهاجم طريقة عرضها.” وهكذا، يتحول النقاش إلى عرض بهلواني، يصرخ فيه الطرف الأضعف بلغة أقوى منه، ثم ينسحب كأنه انتصر.

لكن لا غرابة. فنحن في زمن يظن فيه البعض أن حرية الرأي تعني الحق في اقتحام كل نقاش، مهما كانت درجة تعقيده أو عمق مجاله، دون أن يمتلك أدنى معرفة. من لم يقرأ كتابًا في الفلسفة، ولا ورقةً في المنطق، ولا تأمل لحظةً في مفهوم الحقيقة، يدخل بثقة مطلقة في نقاشات حول العدالة، اللغة، الإيمان، الوجود، وكأن الثقافة كائنٌ يمكن امتطاؤه دون تدريب. إنه التضخم المعرفي الزائف. الإمام علي اختصر الكارثة بقوله الخالد: “ما جادلت عالِمًا إلا غلبته، وما جادلتُ جاهلًا إلا غلبني.” لأن الجاهل لا يُجيد التمييز بين البرهان والتصفيق، بين السؤال والسخرية، بين التفكير والتبرير. أما سقراط، فكان يسأل أولًا: هل نعرف ما نتحدث عنه؟ فإن لم نكن نعرف، فكل ما يلي هو ضجيج راقٍ مغلف بمفردات فخمة. ذلك أن الجهل حين يتزين بالكلمات، يصبح أكثر خداعًا من الجهل العاري.

والأدهى من الجهل، هو التبجح اللفظي. هناك من لا يملك أي حجة، لكنه يتسلح بقاموس متخم بالمصطلحات. كلمات مثل “تحيّز تأكيدي”، “مغالطة رجل القش”، “التفكير الانتقائي”، “الإطار المرجعي”، تُستخدم في كل اتجاه، كما يُستخدم السحر الأسود. لا توضع في سياقها، ولا تُشرح، بل تُطلق بفظاظة كأنها كروت حمراء في ملعب الكلام. وهذا لا علاقة له بالمنطق، بل بالتنمر الفكري. كما حذّر فوكو: “حين تُستخدم اللغة للتبرير بدل التفسير، يصبح الحوار سلطة لا معرفة.” إن استخدام المصطلحات لا يعني شيئًا، إذا لم يُرافقه فهمٌ لتاريخها، سياقها، وحقلها المفاهيمي. اللغة يمكن أن تكون سلاحًا للهيمنة، تمامًا كما يمكن أن تكون أداة للفهم. وهي تتحول إلى طغيان ناعم، حين تُستخدم لتكميم الصوت الآخر بدل إنضاجه.

وهكذا، نصحو ذات صباح فنجد أن أغلب “النقاشات” التي نشاهدها ليست سوى أصوات مرتفعة تنبح تحت لافتة المنطق. يدخل الناس النقاشات كما يدخل الجندي ساحة معركة: يضرب دون خطة، يصرخ دون هدف، ثم يخرج مكسورًا أو مُتوهمًا أنه صفع العالم. الحوار بلا معرفة ليس شجاعة فكرية، بل قفزة بهلوانية في الفراغ. سقراط – صاحب الحوارات الخالدة – قال: “اعرف نفسك أولًا.” لكنّ المشكلة اليوم أن كثيرين لا يعرفون أنفسهم، ولا يعرفون أنهم لا يعرفون، ومع ذلك يتحدثون باسم العقل والمنطق وكأنهم ناطقون رسميون باسم سقراط ذاته. هذا ما نسميه بـ”الوعي المزيّف”، حين يعتقد الإنسان أنه يعلم، في حين أن كل ما يحمله هو فتات من القراءة، وقشرة من المصطلحات، وسقف من الغرور.

أما البعد الأكثر خفاءً، فهو ما تكشفه علوم النفس والسلوك الجدلي: استخدام اتهام المغالطة ليس دائمًا لأسباب فكرية، بل أحيانًا نفسية بحتة. البعض لا يريد أن يُفكّر، بل يريد أن يربح. لا يسعى لتفكيك حجتك، بل يسعى لخلخلة ثقتك بها. يتهمك بمغالطة، لا لأنه فهمك، بل لأنه يريد أن يُربكك، أن يسحب البساط من تحت قدميك دون أن يشرح كيف. هذا نوع من التلاعب النفسي يُمارس بغطاء فلسفي، هدفه الهيمنة لا التوضيح. دوبرلي كتب قائلًا: “أخطر ما في الجدال ليس المغالطات، بل الجهل المقنّع بالثقة الزائفة.” الثقة حين تتجسد في من لا يملك معرفة، تصبح قنبلة صوتية، لا تُفجّر الفكرة بل تُخيف من يطرحها.

ولأننا نعيش في ثقافة الاستعراض، صار كثير من النقاشات نوعًا من السيرك الثقافي: متفرجون يصفقون لأي نكتة مغلفة بمصطلح فلسفي، ومتحدثون يرمون المصطلحات كما يُرمى التراب على عيون الخيول، ليُربكوا الخصم لا ليقنعوه. ما نراه ليس حوارًا، بل حلبة مصارعة لغوية، فيها تُصفع الحقيقة، ويُصفق للجمل المنمقة، ويُصفّر لكل من يصرخ بمصطلح لا يفهمه. وهذه ليست ثقافة، بل “تثقيف مضاد”؛ بناء هشّ لا ينهار من الخارج، بل من الداخل.

 لا بد أن نُعيد الاعتبار لشروط الدخول إلى ساحة الحوار. فليس اللسان وحده من يُؤهِّل المتكلم، بل العقل المدرّب، والموقف المنضبط، والرغبة الصادقة في الفهم. من لم يُمارس القراءة كعادة، ولم يُربِّ نفسه على التأمّل، ولم يُحرج أفكاره أمام أسئلة حقيقية، فوجوده في النقاش ليس حضورًا فكريًا، بل ضوضاء مؤدبة. الصمت، في هذه الحالة، لا يُعدّ انسحابًا، بل احترامًا لجدّية المساحة التي

إن المنطق لا يُستخدم للهروب، بل للمواجهة. لا يُستخدم للتبرير، بل للتفكيك. الحوار الحقيقي لا يتوارى خلف المصطلحات، بل يعرّي المفاهيم. والفيلسوف الحقيقي لا يسعى لإسكات خصمه، بل لإضاءة طريقه.

لكن في زمن تُفهم فيه الفلسفة كحيلة لغوية، ويُفهم فيه الحوار كمسرحية صوتية، من الطبيعي أن يصبح الصراخ أكثر إقناعًا من البرهان، والادعاء أكثر تأثيرًا من الفهم. لقد صرنا نعيش في “اقتصاد المفاهيم المزيفة”، حيث تُباع المصطلحات على الأرصفة، ويشتريها كل من يريد أن يبدو ذكيًا على عجل.

وفي النهاية، لا يسعنا إلا أن نضحك، ساخرين، من المشهد كله. حوار تُديره مصطلحات لا يعرف أحدٌ أصلها، وخطاب تهيمن عليه ثقة لا تستند إلى شيء، وعقول تتصارع على من يصرخ أولًا لا من يفكر أعمق.

إن من يُفكّر ليغلبك، سيحاربك. لكن من يُفكّر ليعرف، سيناقشك… ويعلّمك.

فمن تُراك ستكون؟

الوسوم: