محمد الكلابي
في كل نظام سياسي، هناك مسرحيتان: واحدة تُعرض على المسرح، وأخرى تُخرَج خلف الكواليس. المشهد العلني يتحدث عن الشفافية، الكرامة، والمصلحة العامة؛ أما المشهد الفعلي، فهو مزيج من الحسابات، والمواءمات، والقرارات التي لا تُقال جهرًا. ومع مرور الزمن، يتسع الفارق بين الاثنين حتى يُصبح الكذب هو القاعدة، والصدق هو الاستثناء.
هذا التحوّل ليس طارئًا، بل متجذّرًا، وتكمن جذوره في اللحظة التي كتب فيها ميكافيلي كتابه الشهير «الأمير». لم يقدّم الرجل فلسفة مثالية، بل صاغ دليلاً للبقاء في زمن مضطرب: إذا أردت أن تحكم، لا تُفرِط في الطيبة. لم يُحرّض على الشر لذاته، بل نصح الحاكم بأن يستخدم كل وسيلة متاحة ليبقى ممسكًا بزمام السيطرة، حتى لو كانت الكذب، أو النفاق، أو الخيانة.
كانت وصاياه صادمة، لكنها لم تبق كذلك. مع الوقت، امتصّت الأنظمة الحديثة فكر ميكافيلي وهضمته، لا كخطة مرحلية، بل كعقيدة ذهنية مستقرة.
لم تعد الواقعية السياسية تفترض وجود قيم، بل تفترض غيابها. لم يعد الكذب يُرتكب في الخفاء، بل يُدار بمنهجية، ويُبرَّر بلغة تقنية، ويُجمَّل بحرفية أدوات العلاقات العامة. والنتيجة: أنظمة كاملة تقوم على التناقض بين ما يُقال وما يُفعل.
حتى الديمقراطيات، التي يُفترض أنها فضاءات للمساءلة والوضوح، تحوّلت إلى ساحات لخداع منظّم. يُروَّج للحريات في الخطاب الرسمي، لكنها تُفرَّغ من مضمونها في الممارسة الفعلية. يُسخّر القانون لإدامة الغموض لا فضحه. الإعلام لا يلاحق الحقيقة، بل يعيد تغليف الأكاذيب في قوالب جذابة.
وما يزيد المأزق تعقيدًا هو أن الجمهور نفسه بات يتقبل هذا الخداع. لم يعد الناس يندهشون من التناقض، بل أصبحوا يفضلونه، ما دام مصاغًا بأناقة. في الوعي الجمعي، القائد المراوغ يُرى “ذكيًا”، أما الصادق فيُعد “ساذجًا”. حتى النزاهة باتت تُقرأ كقِصر نظر سياسي، وكأننا نعيش ضمن ثقافة لا تحتمل الحقيقة، ولا تثق بها، وربما لم تعد ترغب بها أصلًا.
ومع ذلك، لا يزال هناك استثناء نادر يثبت أن الصدق حين يُستخدم بذكاء، يمكن أن يكون مصدر قوة لا مظهر ضعف. من أبرز هذه الاستثناءات: خوسيه موخيكا، الرئيس السابق للأوروغواي. رجلٌ عاش حياة شديدة البساطة، حتى أن الإعلام العالمي لقّبه بـ”أفقر رئيس في العالم”. لم يسكن القصر، بل أقام في مزرعة متواضعة مع زوجته وكلبه، يقود سيارة قديمة ويتبرع بمعظم راتبه. لكنه لم يكن ناسكًا هاربًا من السياسة، بل سياسيًا أدرك أن الشفافية تُربك الخصم أكثر مما تُرضي الحليف.
موخيكا لم يُخفِ شيئًا، ولم يُجمّل خطابه. لم يتقمص دور القديس، بل تصرّف كحاكم واقعي فهم أن الكشف الاستباقي للحقيقة يُسقِط سلاح الخصومة. بساطته كانت موقفًا. ووضوحه لم يكن تزمتًا أخلاقيًا، بل استراتيجية محكمة جعلته محبوبًا لدى شعبه، ومحترمًا حتى من خصومه، وخرج من الحكم نظيف الكف، ثابت الصورة.
لكن موخيكا استثناء. أما القاعدة، فهي عالم سياسي تدور محركاته على وقود الكذب المنهجي. نحن لا نعيش فقط في «عصر ما بعد الحقيقة»، بل في زمن لم يعد أحد يحتاج فيه إلى الحقيقة أصلًا. القصة الأجمل تسحق الحقيقة، لا تزاحمها فقط. المسرح ينتصر على الواقع.
فهل نحن مجرد ضحايا لهذا الخداع؟ أم شركاء فيه؟
وهل بقي من الحقيقة ما يمكن البناء عليه؟
أم أن السياسة، في جوهرها، لم تكن يومًا سوى فنّ إتقان الكذب دون أن يُكتشف صاحبه؟