تهتم مراكز البحوث في العالم بالشائعات التي تنتشر بين الناس، وتصبح موضع اهتمامهم في المجالس الخاصة والعامة، ليس لأنها دقيقة وموثقة، فهي في الغالب حقائق مختلطة بأباطيل، أو وقائع مشوبة بالخيال، بل لأنها – وهذا هو المهم – تعبر عن ذوق الشارع واتجاهات الرأي العام، وميول السواد الأعظم من المجتمع، وتعطي لرجل السياسة والاقتصاد والمخابرات والثقافة والتاريخ .. صورة دقيقة عن الوضع العام في أي بلد من البلدان.
وأكثر ما تنتشر هذه الإشاعات في البلدان القلقة والمضطربة، التي لا تتمتع باستقرار أمني أو اجتماعي، أي أنها في الغالب تستوطن بلاد العالم الفقير، أو من يحاول الخروج منه، مثل العراق.
ولا بد أن نقر أن هذا هو الوضع الطبيعي في البلدان المتحولة حديثاً إلى الديمقراطية، فهناك تباين هائل في التفكير، واختلاف كبير في وجهات النظر، وعلينا أن ننتبه إلى الأسباب التي جعلت جمهوراً واسعاً يميل إلى تصديق هذه الشائعات.
وآخر ما أخذ يتردد بين القوم، أنباء عن مساعدات عينية قدمها العراق لبلدين عربيين، هي عبارة عن شحنات صغيرة من القمح المنتج محلياً، وبدلاً من أن يثير هذا الأمر تقدير وابتهاج الناس المعروفين بالكرم، والمتباهين به، ويشعرهم بالفخر لما يمتلكونه من مروءة، هاجت مخيلة القوم وأخذوا يقرعون كفاً بكف ويضربون أخماساً بأسداس، حزناً على تبديد ثروات العراق بهذا الشكل المفجع، الذي سيسير بالعراق لا محالة إلى الإفلاس! .
وقد تبين في ما بعد، أن هذه الشحنات من الضآلة بشكل لا تؤثر على رصيد العراق من القمح، الذي يشهد وفرة باتت تعجز مخازن الغلال عن استيعابها، لكن تأثيرها على تخفيف غائلة الجوع في هذه البلدان وبالغ وكبير.
وقد نسي هؤلاء الذين يعيبون على الحكومة مد يد العون لأشقائها من العرب، تلبية لواجب إنساني وأخلاقي، أن العلاقات الدولية تقتضي نوعاً من التضامن في الملمات، يضعه في عمق منظومة الأمن القومي، وأن تنميتها من الفروض الأساسية للجهاز الحاكم. وإحدى أهم وسائل نجاحه وقوته.
كانت الولايات المتحدة من الدول التي أدركت هذه الحقيقة في وقت مبكر. فقدمت المساعدات بشكل منتظم إلى دول كثيرة في العالم الفقير، فاكتسبت لديها نفوذاً وحظوة، في زمن لم تكن هي فيه الدولة الأولى أو الثانية في العالم، كما قدمت قروضاً ومنحاً إلى الدول الأوربية التي أنهكتها الحروب الكونية. وهذا هو السر الذي جعل منها الدولة الأقوى، حتى بوجود منافسين أشداء مثل الاتحاد السوفييتي السابق. عملاً بحكمة أميركية متداولة تقول : I pay, I say أو (أنا أدفع، إذن أنا من يأمر). وهذا المبدأ هو الذي تقوم عليه السياسة الأميركية، بصرف النظر عن أبعادها الأخلاقية.
وبوسع العراق أن يعمل بهذا المبدأ في حدود إمكاناته المتاحة، لتطوير علاقاته الخارجية، واستعادة نفوذه في المنطقة. ولما كان إنتاج مادة حيوية مثل القمح يسمح له بتقديم مثل هذه المساعدات (وهي ذاتها كانت محور المساعدات الأميركية للدول الفقيرة)، فإن عليه أن يمضي قدماً في هذا الاتجاه، ويقوم بتشجيع زيادة الإنتاج فيها، أو في ما يماثلها من المواد، ويخصص الفائض منه للمساعدات الدولية.
لا يجب أن ينظر العراقيون إلى هذا الواقع من منطق الحرص الشديد على المال العام، أو الخوف من تبديد الثروة الوطنية. لأن هذه الكميات المتواضعة تقوم بدور محوري في حماية أمن المجتمع، وتوفر له فرصاً واسعة للنمو، وتقوم بتعزيز دور البلاد في المنطقة، وإعطائها دوراً أكبر، يتناسب مع ما يملكه من تاريخ لا يتوفر للكثير من الدول، التي باتت تسبقها في شتى المجالات.