هدى زوين
في المساحات التي لا تسجلها الكاميرات، ولا تحفظها التقارير العلنية، يتشكّل نوع آخر من الحراسة. حراسة بلا ضجيج، بلا بيانات رسمية، وبلا أوسمة تُعلّق على الصدور. إنهم رجال الظل، أولئك الذينيمشون في المناطق الرمادية التي تفصل بين ما نعرفه وما لا يجب أن يُعرف، بين ما يُقال وما يجب أنيبقى مكتوماً.
العالم اعتاد أن يؤرّخ البطولات بصور وأسماء ومشاهد استعراضية، لكن هناك رجالاً يؤرّخون أفعالهمبالصمت. لا تُرى خطواتهم على طريقٍ، لأنهم لا يسيرون عليه مرتين. ولا تُحفظ بصماتهم على باب، لأنهميغلقونه قبل أن ينتبه أحد لفتحه. وجودهم ليس فرضية بل ضرورة، وغيابهم الظاهري هو أثمن أشكالحضورهم.
في أوقات القلق، حين تنحني الأسئلة الثقيلة بلا جواب، تتحرك الكتائب الصامتة بلا ضوء، وتنتشر العيونالبعيدة كخيطٍ لا ينقطع، وتظل مراكز الظل نابضة، لا تعرف النوم. إنها منظومة لا تتكئ على الصخب، بلعلى دقة التوقيت وعمق الفهم وتشابك الخيوط التي لا تبدو مترابطة لعابرين لا يدققون.
ليسوا أشباحاً، بل رجالٌ من لحمٍ ووعي، لكنهم اختاروا أن يكونوا بلا انعكاس على المرايا. لأن مهمتهمليست أن يُشاد بها بل أن تُنجَز. وهم لا يكتبون قصصهم، لأن القصص تُكتب عنهم بعد أن تنجو المدن،وتستقر الليالي، ويعود السؤال ليتراجع خطوة إلى الخلف.
رجال الظل يحرسون بقانون غير مكتوب: أن لا يحتاج الأمن إلى تفسيرٍ مطوّل بعد تحقيقه. وأن لا يُقلقأحدٌ بوجودهم، لأن القلق الحقيقي يبدأ حين تظهر الحراسة للعلن، وتصبح الحماية عنواناً لعجزٍ لالاقتدار.
إنهم حراس المناطق الغامضة، يظلون على مسافةٍ واحدة من الخطر ومن النجاة، يرصدون الأولويمهّدون للثانية. لا يُطلب منهم التصفيق، ولا يلتفتون إليه إن قُدّم. لأنهم يعرفون أن أثقل الهزائم تأتيحين تتكلم الأفعال أكثر من اللازم، وأن أثمن الانتصارات حين تقول أقل مما تفعل.
وحين نبحث عن آثارهم… لا نجدها. لا لأنهم لم يمروا، بل لأنهم مَرّوا كما يجب، دون أن يخلّفوا خلفهمما قد يتحوّل يوماً إلى ثغرة.
فالظل، لمن يفهم الحراسة، ليس غياباً للضوء… بل طريقة ذكية لاستخدامه.
