محمد عبد الجبار الشبوط
مقدمة
هل الإنسان حر في أفعاله؟ وهل يمتلك إرادته بحرية؟ أم أنه مقيّد بقوى لا يملك منها فكاكًا؟
أسئلة عميقة وممتدة، طرحتها الفلسفة والدين منذ قرون. ولعل من أعمق العبارات التي تلخص إشكالية الإرادة الإنسانية، ما قاله الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور:
“A man can do what he wills, but cannot will what he wills.”
(الإنسان يستطيع أن يفعل ما يريد، لكنه لا يستطيع أن يريد ما يريد).
وفي المقابل، نجد في التراث الإسلامي، وخاصة في المدرسة الإمامية، حديثًا مرويًا عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) يقول فيه:
“لا جبر ولا تفويض، وإنما أمر بين الأمرين.”
ورغم اختلاف السياقين، إلا أن ثمة تقاربًا مدهشًا بينهما من حيث الجوهر، يدفعنا إلى تأمل العلاقة بين الإرادة والحرية، والاختيار والضرورة، في ضوء الفهم الفلسفي والديني.
أولًا: قراءة في عبارة شوبنهاور
عبارة شوبنهاور تُعبّر عن موقف فلسفي مزدوج:
حرية مشروطة: الإنسان حر في تنفيذ إرادته. يستطيع أن يفعل ما يشاء إن أراد ذلك.
إرادة غير حرة: لكنه ليس حرًا في اختيار إرادته نفسها، فهي ناتجة عن تراكمات لا يختارها: التكوين الوراثي، البيئة، التجربة، اللاوعي… إلخ.
بعبارة أخرى، شوبنهاور يرى أن الفعل يتبع الإرادة، لكن الإرادة نفسها تتبع أشياء أخرى، خارجة عن نطاق سيطرة الإنسان. فالحرية عنده جزئية ومشروطة وليست مطلقة.
هذا الموقف يبتعد عن الحتمية الصارمة التي تنفي كل حرية، كما يرفض الحرية المطلقة التي تفترض أن الإنسان يخلق إرادته من العدم.
ثانيًا: “لا جبر ولا تفويض”: قراءة في حديث الإمام الصادق
الحديث المنسوب إلى الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) يمثل أحد أعمدة الفهم العقائدي في الفكر الإمامي:
“لا جبر ولا تفويض، وإنما أمر بين الأمرين.”
ويُفهم من هذا الحديث:
نفي الجبر: الإنسان ليس مكرَهًا قسرًا على أفعاله. هو يملك حرية نسبية ويحاسَب عليها.
نفي التفويض المطلق: لا يملك استقلالًا تامًا عن الله تعالى. إرادته وسعيه واقعان ضمن نظام إلهي محكم.
إثبات الوسطية: الإنسان كائن حر في دائرة من السنن الإلهية، ومسؤول ضمن نظام مشيئة الله.
هذا الموقف يُعرف في علم الكلام بـ”الأمر بين الأمرين”، وهو نظام وسطي يعترف بحرية الإنسان ضمن حدود، ويقر بالتقدير الإلهي دون أن يُسقط المسؤولية.
ثالثًا: المقارنة بين الموقفين
رغم أن شوبنهاور يتحدث بلغة فلسفية غير دينية، والإمام الصادق يتحدث بلغة إيمانية عقائدية، إلا أن هناك توازيًا واضحًا بين الموقفين:
كلا الموقفين يرفضان الحتمية المطلقة، كما يرفضان التفويض المطلق، ويقترحان نوعًا من الحرية النسبية داخل إطار من الضرورة.
رابعًا: بين العقل والإيمان
يمنحنا هذا التقاطع بين شوبنهاور والإمام الصادق فرصة لفهم أعمق لطبيعة الإنسان:
من جهة، هو كائن حر يسعى ويختار ويتحمل المسؤولية.
ومن جهة أخرى، هو ابن بيئته، وصنيعة تكوينه النفسي، ومحكوم بشبكة من السنن الإلهية والكونية.
وهذا ما يجعل الفكر الإمامي متقدّمًا على الكثير من المذاهب، حين قدّم صيغة متوازنة بين العدل الإلهي، والحرية الإنسانية، والسنن الكونية، في عبارة مختصرة لكنها شديدة العمق:
“أمر بين أمرين.”
خاتمة
إن عبارة شوبنهاور تضيء جانبًا من الإشكال الفلسفي العميق حول الإرادة، لكنها تفتقر إلى الإطار الغائي والأخلاقي الذي توفره الرؤية التوحيدية. أما حديث الإمام الصادق، فإنه يُكمّل التصور ويمنحه أفقًا روحيًا وتكليفيًا، يجعل من الإنسان كائنًا حرًا ومسؤولًا، ضمن منظومة محكمة من المشيئة الإلهية والعدالة والاختبار.
وهكذا، يلتقي التحليل العقلي الفلسفي مع التأصيل الإيماني العَقَدي، ليقدما لنا فهمًا ناضجًا ومتكاملًا للإرادة الإنسانية.
