مواويل جنوبية
لأكثر من ثلاثة أيام لم يتوقف المطر عن الهطول ، فصرنا نردّد كلمات السيّاب :- أتعلمينَ أيّ حزنٍ يبعثُالمطر ؟
كنّا نعشق قصيدته هذه مثل عشقنا للمطر، حينها لم يدر بخلدي أنني سأكره المطر ذات يوم، لما كنتُأشعر به وهو يتغلغل بين كل مسامات روحي فرحاً وانتعاشاً كلّما سرتُ تحته، ما أجمل المشي تحتالمطر ؟!!
منذ أن فتحت عينيّ على المطر، وأنا طفل أحبو في باحة بيتنا الطينيّ في أقصى جنوب القلب، عشقتُالمطر، وعشقت رائحة الأرض بعد سقوطه، لهذا أجدني منتعشاً ومبتهجاً وحالماً أركض تحت المطر !!
كانت قريتنا الجنوبية تزدان بالمطر، وهو يطرق الشبابيك والسطوح ويجعل من المزاريب آلات موسيقيةتعزف أجمل الألحان حين ترمي بالماء على الأرض ليحفر أخدوداً يأخذ مسارب شتى !!
كنّا ساعتها مجبولين بالعشق القروي للمطر، نلعب، ونفتح اكفّنا لنتلقّف حبيبات الحالوب ( البرد ) جاعلين منها حلوى باردة في أفواهنا !!
كانت البساتين تلبس حلّتها الخضراء المبتلّة، يقطر الماء من سعف النخيل وأغصان الأشجار والأوراقليلثم خدّ الحشائش والأزهار!!
كبرنا، وكبر هذا العشق المطريّ في أرواحنا .. ولكن … و( آه من كلمة ال لكن ) أصبحنا الآن نتهرب منه،بل نتذمّر وننزعج حين تمطر، ندعو من كل قلوبنا أن لا تمطر أبداً، مع أننا نعرف جيداً أن المطر حياةالأرض، والسبب الخراب وسوء الخدمات !!
عند أول قطرة تطفح المجاري المسدودة، وتفيض الشوارع، وتغرق البيوت والأسواق، ويتسرّب الماء منالسطوح ( يخرّ سطح البيت ) وتسقط منازل عديدة !!
لهذا نتوقف ونقول :ــ ماذا قدّمتم للناس خلال هذه السنوات، غير الخراب والقلق والأمراض والموت ؟!
كان الناس يدعون لزوال حكم الطاغية الفاشي الذي جرّ البلاد إلى حروب وموت وخوف مزمن، وينتظرونساعة الخلاص منه، حيث رقصوا وغنّوا في الشوارع والبيوت فرحين بسقوطه، حالمين بأيام خيرٍ وسعادةٍوهناء، لكنكم بدّدتم فرحتهم، وسرقتم سعادتهم ،وضيّعتم أحلامهم !! جئتم باحترابكم الطائفي،ومحاصصتكم المقيتة التي شرعنت للفساد، وما تزال تشرعن كلّ يومٍ قانوناً لا يقبل به عقل ولا منطق ولاضمير إنساني أبدا !!
لم تفكروا ببناء الإنسان بناءً حقيقياً بعدما أنهكته الحروب والفاشيّة، ولم تقدّموا له العلم والمعرفةوالخدمات والحقوق !!
لم تفكّروا ببناء الوطن بناءً حقيقياً، من خلال إعادة الحياة إلى المصانع والمعامل والمزارع والعمرانوالعدالة والحرية والتقدّم والتطوّر في كل شيء !!
بناء الوطن يأتي من خلال بناء الإنسان،، وعشق المطر يعني عشق الحياة والجمال !!
بفسادكم، وانتشار الخراب وسوء الخدمات واللامبالاة وعدم التفكير الحقيقي والصحيح ببناء الانسان والوطن جعلتمونا غرباء في وطننا، فصرنا نكره المطر مرغمين، لأنّه يُفسد علينا كلّ شيء،، لهذا نظلّ نرددمع كلّ زخّة مطر :- وكيف يشعرُ الغريب فيه بالضياع ؟!
