منصة ثقافية أدبية

في ذكرى الانتصار على الإرهاب: هل نجح العراق في استثمار النصر لبناء الدولة الحضارية الحديثة؟


بتاريخ ديسمبر 14, 2025 | في مقالات

المشاهدات : 7


محمد عبد الجبار الشبوط

تمثّل ذكرى الانتصار على الإرهاب واحدة من اللحظات المفصلية في التاريخ العراقي الحديث، فقد شكّلت نهاية مرحلة مأساوية وفتحًا لباب جديد كان من الممكن أن يدخل منه العراق إلى مشروع بناء الدولة الحضارية الحديثة. ولئن كان النصر العسكري حدثًا تاريخيًا مهمًا، فإن القيمة الحقيقية لأي نصر تكمن في قدرته على التحول إلى نقطة انطلاق لمشروع وطني شامل، يعيد بناء الدولة على أسس الحرية والعدالة والمسؤولية والمواطنة والإتقان وسائر القيم التي تُعدّ الركائز الاثنتي عشرة لمفهوم الدولة الحضارية الحديثة.

بعد مرور سنوات على إعلان النصر، تبدو الصورة مركّبة؛ فالعراق نجح في استعادة الأرض، لكنه لم يحقق بعدُ استعادة الدولة بوصفها منظومة قيم ومؤسسات فاعلة. ويمكن القول إن توظيف النصر في مشروع التحول الحضاري ظل محدودًا لأسباب بنيوية وسياسية وثقافية، بعضها مرتبط بطبيعة النظام نفسه وبعضها الآخر مرتبط بالبنية الاجتماعية وضعف الوعي الحضاري العام.

أول التحديات تمثل في غياب الرؤية الموحدة لمفهوم الدولة الحضارية الحديثة، إذ بقيت مؤسسات الدولة تعمل بمنطق إدارة الأزمات لا بمنطق البناء طويل المدى، فيما ظلت القوى السياسية أسيرة صراعات النفوذ والهويات المتنافسة، الأمر الذي جعل النصر العسكري يتحول إلى مكسب ظرفي، بدل أن يكون لحظة تأسيسية لوعي وطني جديد. ولم تُستثمر لحظة الإجماع الشعبي أثناء الحرب، حين توحد المجتمع في مواجهة خطر وجودي، لبناء عقد اجتماعي جديد يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن على أساس المواطنة والقانون والقيم العليا.

ومن التحديات أيضًا ضعف مشروع الإصلاح المؤسسي. كان يفترض أن ينتج عن النصر إدراك عميق بأن الانتصار لم يتحقق فقط بالقوة العسكرية، بل بتكامل المجتمع والدولة، وأن استمرار هذا التكامل يتطلب مؤسسات قوية، وخدمات فعّالة، وإدارة رشيدة، وتعليمًا حضاريًا يعيد تشكيل الوعي. لكن بقاء المؤسسات على حالها، واستمرار الفساد والمحاصصة، جعلا النصر منقوصًا، إذ لم يتحول إلى قاعدة لإعادة بناء الدولة الحديثة.

في الجانب الاجتماعي، كشف النصر عن طاقة وطنية هائلة كان يمكن تحويلها إلى مشروع قيمي يعزز اللحمة الوطنية، غير أن غياب الاستثمار الواعي لهذه الطاقة أدى إلى عودتها إلى الانقسام التقليدي، بينما كان بالإمكان توجيهها لبناء ثقافة حضارية جديدة تقوم على التضامن والتعاون والإيثار والثقة والسلام والإبداع.

ومع ذلك، فإن الباب لم يُغلق. فالنصر على الإرهاب ما زال يمثل رصيدًا وطنيًا يمكن البناء عليه. ويمكن لمشروع الدولة الحضارية الحديثة أن يستعيد هذا الرصيد عبر تحويل دروس الحرب إلى برنامج وطني للنهضة، يقوم على إعادة تعريف وظيفة الدولة، وتطوير التعليم القيمي/الحضاري، وتعزيز المواطنة، وبناء مؤسسات فعالة، وتبني سياسات اقتصادية واجتماعية تُنهي الهشاشة التي سمحت بظهور الإرهاب في المقام الأول.

إن السؤال الأهم اليوم لا يتعلق بالماضي بقدر ما يتعلق بالمستقبل: كيف يمكن تحويل هذا النصر إلى أساس لإعادة تأسيس العراق الحضاري؟ فالانتصار العسكري كان خطوة، أما الانتصار الحضاري فهو المشروع الأكبر الذي ينتظر العمل الممنهج والإرادة السياسية والوعي العام القادر على حمل مشروع الدولة الحضارية الحديثة إلى مداه الكامل.

وبذلك، تصبح ذكرى الانتصار على الإرهاب ليست مناسبة للاحتفال فحسب، بل لحظة مراجعة شاملة تعيد التأكيد أن العراق لن يضمن استقراره وازدهاره إلا حين ينتقل من منطق إدارة الدولة إلى منطق بنائها، ومن منطق القوة المسلحة إلى منطق القوة الحضارية، ومن الانتصار العسكري إلى الانتصار القيمي والمؤسسي الذي يقوم عليه مشروع الدولة الحضارية الحديثة.

الوسوم: