منصة ثقافية أدبية

تطواف‭ ‬الغريب‭ (‬1‭)‬-حسن النواب


بتاريخ ديسمبر 8, 2025 | في اراء حرة

المشاهدات : 93


أواخر‭ ‬عام‭ ‬2003؛‭ ‬لم‭ ‬أصدّق‭ ‬جلوسي‭ ‬على‭ ‬مقعد‭ ‬الطائرة‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬حياتي،‭ ‬وهي‭ ‬تحلّق‭ ‬من‭ ‬مطار‭ ‬دبي‭ ‬لمدة‭ ‬11‭ ‬ساعة‭ ‬ونصف‭ ‬في‭ ‬سماوات‭ ‬مجهولة؛‭ ‬حتى‭ ‬هبطتُ‭ ‬منها‭ ‬بصفة‭ ‬لاجئ‭ ‬إِلى‭ ‬مطار‭ ‬مدينة‭ ‬بيرث‭ ‬في‭ ‬غرب‭ ‬قارة‭ ‬أستراليا‭. ‬لما‭ ‬استقر‭ ‬بي‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬شقة‭ ‬صغيرة،‭ ‬عدت‭ ‬لمزاولة‭ ‬هواية‭ ‬التسكع‭ ‬التي‭ ‬أعشقها‭ ‬والتي‭ ‬أدمنتُ‭ ‬عليها؛‭ ‬مذ‭ ‬أرغمتني‭ ‬محنة‭ ‬الحصار‭ ‬أنْ‭ ‬أكون‭ ‬صعلوكاً‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬لسنوات‭ ‬طويلة‭. ‬حصلتُ‭ ‬على‭ ‬خريطة‭ ‬المدينة‭ ‬من‭ ‬جاري‭ ‬الفرنسي،‭ ‬وحين‭ ‬نشرتها‭ ‬فوق‭ ‬الطاولة‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬الأماكن‭ ‬السياحية،‭ ‬لا‭ ‬أدري‭ ‬لماذا‭ ‬اخترت‭ ‬حديقة‭ ‬الكنز‭ ‬بارك‭ ‬نقطة‭ ‬انطلاق‭ ‬أولى‭ ‬لاكتشاف‭ ‬معالم‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬الوديعة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬لولا‭ ‬شراسة‭ ‬سكانها‭ ‬الأصليين؟‭ ‬طويت‭ ‬الخريطة‭ ‬وخبأتها‭ ‬في‭ ‬جيبي‭ ‬قاطعاً‭ ‬المسافة‭ ‬من‭ ‬شقتي‭ ‬مشياً‭ ‬على‭ ‬الأقدام‭ ‬نحو‭ ‬حديقة‭ ‬الكنز‭ ‬بارك‭ ‬وقد‭ ‬امتلأت‭ ‬رئتاي‭ ‬بهواء‭ ‬منعش،‭ ‬بعد‭ ‬ساعة‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬وصلتها‭ ‬بعد‭ ‬مروري‭ ‬بشارع‭ ‬أنيق‭ ‬يدعى‭ ‬جورج‭ ‬ترس‭ ‬كانت‭ ‬تظلّلهُ‭ ‬أبراج‭ ‬شاهقة‭ ‬من‭ ‬الجانبين‭.‬

 

حديقة‭ ‬Kings‭ ‬Park،‭ ‬يعتقد‭ ‬كثيرون‭ ‬أنَّ‭ ‬اسمها‭ ‬يعني‭ ‬حديقة‭ ‬الملوك،‭ ‬لكن‭ ‬ترجمتها‭ ‬الدقيقة‭ ‬هي‭ ‬حديقة‭ ‬الشهداء،‭ ‬شيّدت‭ ‬إكراماً‭ ‬لجنود‭ ‬أستراليين‭ ‬قضوا‭ ‬نحبهم‭ ‬بالحربين‭ ‬العالميتين‭ ‬الأولى‭ ‬والثانية،‭ ‬دوّنت‭ ‬أسماؤهم‭ ‬على‭ ‬نصب‭ ‬مخروطي‭ ‬من‭ ‬الحجر‭ ‬وأضيفت‭ ‬لهم‭ ‬أسماء‭ ‬الجنود‭ ‬الذين‭ ‬قتلوا‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬وأفغانستان،‭ ‬الحديقة‭ ‬تربض‭ ‬بشكل‭ ‬خرافي‭ ‬فوق‭ ‬هضبة‭ ‬ترتفع‭ ‬مئات‭ ‬الأمتار‭ ‬عن‭ ‬مستوى‭ ‬سطح‭ ‬البحر،‭ ‬ولشدة‭ ‬ارتفاعها‭ ‬ترى‭ ‬السيارات‭ ‬بمركز‭ ‬المدينة‭ ‬بحجم‭ ‬علبة‭ ‬كبريت‭ ‬وتصبح‭ ‬أبراجها‭ ‬وعماراتها‭ ‬واطئة‭ ‬أمام‭ ‬ناظريك‭ ‬حتى‭ ‬تتوهّم‭ ‬أنَّ‭ ‬بوسعك‭ ‬احتضانها‭ ‬بين‭ ‬ذراعيك،‭ ‬مثلما‭ ‬تتيح‭ ‬للزائر‭ ‬رؤية‭ ‬الغابات‭ ‬والحقول‭ ‬الكثيفة‭ ‬عند‭ ‬مشارف‭ ‬المدينة‭ ‬وهضابها‭ ‬البعيدة،‭ ‬يحيط‭ ‬بجانبها‭ ‬الغربي‭ ‬نهر‭ ‬‮«‬سوان‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يشطر‭ ‬المدينة‭ ‬إِلى‭ ‬نصفين،‭ ‬وهي‭ ‬منطقة‭ ‬سياحية‭ ‬أثيرة‭ ‬لدى‭ ‬السائح‭ ‬القادم‭ ‬لمدينة‭ ‬بيرث،‭ ‬لروعة‭ ‬أشجارها‭ ‬العملاقة‭ ‬وهندسة‭ ‬حدائقها‭ ‬الغنّاء‭ ‬ولسحر‭ ‬أنارتها‭ ‬الخلابة،‭ ‬وشعلة‭ ‬النار‭ ‬الليزرية‭ ‬المتوهجة‭ ‬طوال‭ ‬الوقت‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬الحديقة‭ ‬والتي‭ ‬تشير‭ ‬لتضحية‭ ‬الشهداء،‭ ‬مع‭ ‬توفر‭ ‬الحانات‭ ‬ومقاهي‭ ‬الكوفي‭ ‬شوب‭ ‬ومتحف‭ ‬صغير‭ ‬يضم‭ ‬لوحات‭ ‬بنقوش‭ ‬ملونة‭ ‬تبدو‭ ‬غريبة‭ ‬وغير‭ ‬مألوفة‭ ‬رسمها‭ ‬السكان‭ ‬الأصليون‭ ‬والذي‭ ‬يطلقون‭ ‬عليهم‭ ‬تسمية‭ ‬الأَبروجنول‭. ‬يزور‭ ‬هذه‭ ‬الحديقة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ستة‭ ‬ملايين‭ ‬شخص‭ ‬كل‭ ‬عام،‭ ‬حضورٌ‭ ‬كثيف‭ ‬تشهده‭ ‬الحديقة‭ ‬في‭ ‬موسم‭ ‬الصيف،‭ ‬ويصبح‭ ‬الزحام‭ ‬على‭ ‬أشده‭ ‬عندما‭ ‬تحتفل‭ ‬مدينة‭ ‬بيرث‭ ‬بمناسبة‭ ‬Australia‭ ‬Day،‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الحديقة‭ ‬يمكن‭ ‬مشاهدة‭ ‬انفلاق‭ ‬الألعاب‭ ‬النارية‭ ‬بتشكيلات‭ ‬ضوئية‭ ‬فوق‭ ‬نهر‭ ‬سوان‭ ‬مع‭ ‬غروب‭ ‬الشمس‭ ‬وضحكات‭ ‬‮«‬طائر‭ ‬الكوكوبارا‮»‬‭ ‬ابتهاجا‭ ‬بهذا‭ ‬اليوم‭ ‬الوطني،‭ ‬لساعة‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬تبقى‭ ‬تومضُ‭ ‬بسماء‭ ‬المدينة،‭ ‬مع‭ ‬صيحات‭ ‬المحتفلين‭ ‬بصوت‭ ‬أو‭ ‬برالي‭… ‬أُوزي‭… ‬أُوزي‭ ‬Aussie‭ ‬وهي‭ ‬كلمة‭ ‬دلع‭ ‬تُطلق‭ ‬على‭ ‬المواطن‭ ‬الأسترالي‭.‬

 

ويبقى‭ ‬الاحتفال‭ ‬بهذا‭ ‬اليوم‭ ‬مسألةً‭ ‬مثيرةً‭ ‬للجدل‭ ‬خصوصاً‭ ‬لدى‭ ‬السكان‭ ‬الأصليين‭ ‬‮«‬‭ ‬الأبروجنول‭ ‬‮«‬،‭ ‬حيث‭ ‬يعتبرونه‭ ‬مأتماً‭ ‬وليس‭ ‬كرنفالاً‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظرهم‭ ‬وذلك‭ ‬لتدمير‭ ‬بريطانيا‭ ‬لشعب‭ ‬أستراليا‭ ‬الأصليين،‭ ‬ويفضّلون‭ ‬تسميته‭ ‬بيوم‭ ‬الاحتلال‭ ‬وهو‭ ‬اليوم‭ ‬السادس‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬كانون‭ ‬الثاني‭ ‬عندما‭ ‬تمَّ‭ ‬أحياء‭ ‬ذكرى‭ ‬وصول‭ ‬أول‭ ‬أسطول‭ ‬بحري‭ ‬بريطاني،‭ ‬والمكون‭ ‬من‭ ‬11‭ ‬باخرة‭ ‬إِلى‭ ‬أستراليا‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1788،‭ ‬حيث‭ ‬جاء‭ ‬البريطانيون‭ ‬وأنشأوا‭ ‬مستعمرتهم‭ ‬في‭ ‬نيو‭ ‬ساوث‭ ‬ويلز‭ ‬عند‭ ‬الساحل‭ ‬الشرقي‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬القارة‭ ‬التي‭ ‬وهبها‭ ‬الله‭ ‬خيرات‭ ‬وفيرة،‭ ‬الطريف‭ ‬بهذا‭ ‬الاحتفال‭ ‬أنَّ‭ ‬بعض‭ ‬السكان‭ ‬الأصليين‭ ‬ينتهزون‭ ‬هذا‭ ‬اليوم‭ ‬لشرب‭ ‬كميات‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬النبيذ‭ ‬الذي‭ ‬يوّزع‭ ‬مجانا‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الحانات‭ ‬وعندما‭ ‬ينال‭ ‬السُّكر‭ ‬منهم‭ ‬يصرخون‭ ‬احتجاجا‭ ‬بوجوه‭ ‬الحشود‭ ‬المحتفلة‭ ‬ومن‭ ‬أعراق‭ ‬شتى‭ ‬وجنسيات‭ ‬مختلفة‭:‬

 

‭- ‬أخرجوا‭ ‬من‭ ‬وطني‭.‬

 

أسمعَني‭ ‬‮«‬أبروجنول‮»‬‭ ‬ثمل‭ ‬هذه‭ ‬العبارة‭ ‬القاسية‭ ‬قبل‭ ‬خروجي‭ ‬من‭ ‬الحديقة،‭ ‬ظلَّ‭ ‬ينظر‭ ‬نحوي‭ ‬هازئا،‭ ‬كرع‭ ‬جرعة‭ ‬نبيذ‭ ‬من‭ ‬عبوّة‭ ‬بلاستيكية‭ ‬أخرجها‭ ‬من‭ ‬جيب‭ ‬معطفٍ‭ ‬بالٍ‭ ‬وقذر،‭ ‬يضعون‭ ‬خمرتهم‭ ‬بقناني‭ ‬الماء‭ ‬حتى‭ ‬يبعدون‭ ‬أنظار‭ ‬الشرطة‭ ‬عنهم،‭ ‬رعشة‭ ‬خوف‭ ‬سرت‭ ‬بأوصالي‭ ‬عندما‭ ‬تأملّت‭ ‬رأسه‭ ‬الضخم‭ ‬وشعره‭ ‬المحلزن‭ ‬كأنه‭ ‬عش‭ ‬غراب‭ ‬وسحنته‭ ‬التي‭ ‬تشبه‭ ‬لون‭ ‬الجاموس‭ ‬مع‭ ‬زبدٍ‭ ‬كريه‭ ‬يسيل‭ ‬من‭ ‬فمه‭ ‬الواسع‭ ‬كنقرة‭ ‬زفت،‭ ‬مسح‭ ‬شفتيه‭ ‬الغليظتين‭ ‬بأصابعه،‭ ‬تخيلتها‭ ‬أفاع‭ ‬سوداً،‭ ‬قلت‭ ‬أستدّر‭ ‬عطفه‭ ‬لئلا‭ ‬يهجم‭ ‬عليَّ‭:‬

 

‭- ‬أنا‭ ‬من‭ ‬العراق‭.‬

 

لم‭ ‬يفهم‭ ‬كلمة‭ ‬IRAQ،‭ ‬طلب‭ ‬توضيحاً‭ ‬بنبرة‭ ‬مسعورة،‭ ‬ابتعدت‭ ‬خطوات‭ ‬للوراء‭ ‬حين‭ ‬اقترب‭ ‬مني‭… ‬مرتبك‭ ‬خاطبته‭ ‬لأهدئ‭ ‬من‭ ‬روعه‭:‬

 

‭- ‬أخي،‭ ‬العراق‭ ‬وطني‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬تعرض‭ ‬لهجوم‭ ‬من‭ ‬أمريكا‭.‬

 

عندما‭ ‬سمع‭ ‬كلامي‭ ‬تبسَّم‭ ‬بوجهي‭ ‬وبرزت‭ ‬أسنانه‭ ‬العريضة‭ ‬التي‭ ‬غزاها‭ ‬التسوّس،‭ ‬هزّ‭ ‬رأسه‭ ‬مثل‭ ‬شجيرة‭ ‬وحشية‭ ‬تحركها‭ ‬الريح‭… ‬قال‭ ‬متأسفاً‭:‬

 

‭- ‬أنا‭ ‬اعتذر‭ ‬لأني‭ ‬ظننتك‭ ‬كلب‭ ‬مشرّد‭ ‬جاء‭ ‬من‭ ‬بريطانيا‭.‬

 

مدّ‭ ‬يده‭ ‬الخشنة‭ ‬أمام‭ ‬نظري‭ ‬ليشحذ‭ ‬بعض‭ ‬النقود،‭ ‬ظل‭ ‬يمشي‭ ‬مترنحاً‭ ‬خلفي‭ ‬ويكرر‭:‬

 

‭- ‬أنا‭ ‬أعتذر‭ ‬سيدي‭. ‬أشفقتُ‭ ‬عليه،‭ ‬من‭ ‬حقيبتي‭ ‬أخرجتُ‭ ‬عشرة‭ ‬دولارات،‭ ‬حين‭ ‬لمحها‭ ‬شهق‭ ‬فرحا‭ ‬وبخفّةٍ‭ ‬خطفها‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أصابعي‭ ‬ثم‭ ‬همَّ‭ ‬ليقبّل‭ ‬يدي،‭ ‬لم‭ ‬أدعه‭ ‬يحقق‭ ‬رغبته،‭ ‬حين‭ ‬غادرته‭ ‬ظلَّ‭ ‬صوته‭ ‬يزأر‭ ‬من‭ ‬الغبطة‭: – ‬شكراً‭ ‬لقلبك‭ ‬الطيِّب‭.‬

الوسوم: