المحامي-نصير جبرين
نقترب من موسم انتخابي جديد، لكنه ليس موسمًا للتنافس الوطني الشريف، بل موسم للصراع المحموم بين القوائم والأحزاب التي اعتادت أن ترى في السلطة غنيمة، وفي المواطن وسيلة، وفي الوطن مجرد ساحة لتصفية الحسابات. موسم انتخابي تتصاعد فيه لغة الكراهية بدل لغة البرامج، وتُستنهض فيه الغرائز الطائفية بدل المشاريع الإصلاحية. وهنا تكمن القنبلة الموقوتة التي تهدد أمن البلاد واستقرارها، لأننا نعيش انتخابات بلا وطن، وديمقراطية بلا ضمير.
الانتخابات، في أصلها، هي احتفال وطني بالتداول السلمي للسلطة، ومناسبة لتجديد الثقة بالوجوه والكفاءات. لكنها في العراق تحولت، بفعل نظام المحاصصة المقيت، إلى سباق محموم بين أحزابٍ تتقاتل لا لتخدم، بل لتستحوذ؛ تتصارع لا لتبني، بل لتنهب. إننا أمام مشهد سياسي يفتقر إلى روح المواطنة، وإلى أدنى مقومات المسؤولية الوطنية.
النظام السياسي الذي جاء به الاحتلال الأمريكي لم يُبنَ على أسس الدولة الحديثة، بل على توازنات الطوائف والمكونات. فبدل أن يُزرع في قلبه حب الوطن، زُرعت فيه بذور الشك والانقسام. هذا النظام لم ينتج سوى كيانات حزبية مغلقة، ومؤسسات هشّة تُدار بالمحاصصة، وقضاءٍ يترنح بين النفوذ والتأثير، لا بين الحق والعدالة. فهل يمكن لنظام كهذا أن يقود أمة؟
لقد انهارت الفكرة الوطنية في ظل ثقافة الولاءات الضيقة، وتحوّل السياسي إلى زعيم طائفة لا ممثل وطن. والنتيجة: برلمان يفاوض باسم جماعات، لا باسم الشعب، وقضاء يخضع أحياناً للتوازنات أكثر مما يخضع للدستور. إن أخطر ما يواجه العراق اليوم ليس فقط الفساد المالي والإداري، بل الفساد في الفكرة الوطنية، حين يتراجع الانتماء للوطن أمام الولاء للحزب أو الزعيم.
القنبلة الموقوتة ليست في الشارع فقط، بل في النفوس التي تطبّعت على الكراهية، وفي الخطابات التي تُشعل الفتنة باسم الديمقراطية، وفي الشعارات التي تُباع للناخبين كوعود كاذبة. إن استمرار هذا النهج سيقودنا إلى لحظة انفجار سياسي واجتماعي قد لا تُبقي على ما تبقى من الثقة بين المواطن والدولة.
إن الإصلاح لا يُولد من رحم الصراع، بل من وعيٍ وطني جامع يعلو فوق الولاءات الصغيرة. وإذا لم تتوحد الإرادات حول مشروع وطني حقيقي، فإننا سنبقى ندور في حلقة مفرغة من انتخابات تُنتج الأزمات ذاتها، بأسماء جديدة ووجوه متبدلة.
أيها الساسة، كفى مراهنة على تعب الشعب وصبره. وكفى تجاهلاً لصوت الشارع الذي بات يرى اللعبة على حقيقتها. إن الديمقراطية ليست في عدد الصناديق، بل في نزاهة من يضع فيها صوته، وعدالة من يحميها. الوطن لا يحتاج إلى متصارعين على السلطة، بل إلى مخلصين يؤمنون بأن الكرسي وسيلة لخدمة الناس، لا سلعة تُباع وتشترى في سوق السياسة.
نحن بحاجة إلى وقفة وعي، لا إلى جولة صراع. بحاجة إلى مراجعة صريحة تعيد الاعتبار للإنسان العراقي، وتنتصر للدولة على حساب الجماعة، وللدستور على حساب الولاء الشخصي. فالوقت لم يفت بعد، لكن تأجيل الإصلاح يعني الاقتراب أكثر من لحظة الانفجار الحتمي… لحظة القنبلة الموقوتة التي صنعناها بأيدينا، وآن لنا أن نُطفئ فتيلها قبل أن تشتعل في وجه الجميع.
“إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ…
