منصة ثقافية أدبية

الاحتفال بالذاكرة لا يبني المستقبل


بتاريخ أكتوبر 20, 2025 | في مقالات

المشاهدات : 22


محمد الكلابي

في كل دورةٍ جديدة من مهرجانٍ عراقيٍّ كبير، يتكرّر المشهد ذاته: خشبةٌ مضاءة، موسيقى عالية، وجوهٌ مألوفة، تصفيقٌ طويل، وكلماتٌ مخلصة تفيض بالوفاء لذاكرةٍ فنيةٍ عظيمة. غير أنّ الفكرة غالباً ما تنطفئ مع آخر إضاءة، وكأنها جزءٌ من ديكور العرض لا من روحه. نُكرّم رموزنا، نعم، لكننا نادراً ما نبني من تكريمهم مؤسّسة. نُقيم حفلاً باسمهم، لا مشروعاً بروحهم. إننا بارعون في الاحتفاء، ضعفاء في البناء.

هكذا بدا المشهد في ختام مهرجان بغداد الدولي للمسرح بدورته السادسة، التي حملت اسم الفنان الكبير ميمون الخالدي. كانت الأمسية أنيقةً، مخلصةً، مفعمةً بالعاطفة، لكنها ظلت أسيرة اللحظة التي تنتهي بانتهاء الأوبريت. السؤال الأعمق ليس عمّن احتُفي به، بل عمّا بعد ذلك: كيف نحول التكريم من طقسٍ جميل إلى برنامجٍ حيّ؟ كيف نحفظ التجربة لا بوصفها ذكرى بل كبنيةٍ قابلةٍ للامتداد؟

في الذاكرة الثقافية العراقية، قلّما تحوّل “الاحتفاء” إلى “استثمار معرفي”. الأسماء الكبيرة تُرفع شعاراتٍ لدوراتٍ وفعاليات، لكنّها نادراً ما تُترجم إلى مشاريع بحثٍ أو تعليمٍ أو أرشفةٍ منهجية. كان يمكن لدورة ميمون الخالدي مثلاً أن تؤسس لـ«مختبر تمثيل» يحمل اسمه، أو لبرنامجٍ تدريبيٍّ سنويٍّ للشباب، أو لجائزةٍ فنيةٍ تواصل روحه في التجريب المسرحي. لكنّ الوفاء عندنا ينتهي غالباً مع التصفيق، لأننا نكتفي بالاحتفال ولا نتابع الأثر.

الذهنية التي تدير الثقافة لدينا ما زالت أسيرة “الحدث لا المؤسسة”، “اللحظة لا الاستمرار”، “الرمز لا الفكرة”. نحن نعرف كيف نكرّم جيداً، لكننا لم نتعلّم بعد كيف نحافظ. نُعيد إحياء الماضي على الخشبة، لكننا لا نزرع في الحاضر البذور التي تضمن أن يكون لذلك الماضي مستقبل. إنها ثقافة الضوء لا العمق، حيث البهرجة تحلّ محلّ الرؤية، وحيث الوفاء يتحوّل إلى بلاغةٍ لا إلى معرفة.

لو نظرنا إلى تجاربٍ ثقافيةٍ راسخة حول العالم، سنرى كيف يُترجم الوفاء إلى مؤسسية: في فرنسا مثلاً، تحوّل اسم المخرج الكبير “جان فيلار” إلى مهرجانٍ متجددٍ للأفكار في أفينيون، وفي اليابان أُنشئت مدارس كاملة تحمل أساليب مبدعيها لتدريس فلسفة الأداء. أما نحن، فما زلنا نحتفظ بصور الروّاد على الجدران ونناديهم «آباء المسرح»، دون أن نحوّل إرثهم إلى مناهج قابلةٍ للتطبيق. والمفارقة أن العراق الذي رسّخ مبكراً مفهوم الخشبة العربية الحديثة عبر معهد الفنون الجميلة وتجربة حقي الشبلي، لا يمتلك حتى اليوم مركزاً وطنياً لتوثيق أعماله المسرحية وتدريسها بانتظام.

تكريم الراحلين ليس مجاملةً شكلية، بل عقدٌ أخلاقيّ مع الذاكرة. لأننا حين نكتفي بالشكر والورود والدرع، فإننا نختزل التجربة في لحظةٍ عاطفية ونفقد قيمتها التربوية. الذاكرة التي لا تُفعَّل تتحوّل إلى متحفٍ مغلق، مثل خشبةٍ مهجورة ما زالت أضواؤها معلّقة دون عرض. أما الثقافة الحيّة فهي التي تُحوّل الرموز إلى مناهج، والأسماء إلى فرصٍ جديدةٍ للإبداع، كما قال بيتر بروك يوماً: “المسرح لا يعيش في الذكرى، بل في الاستمرار الذي يخلق ذكريات جديدة.”

ما نحتاجه اليوم ليس مزيداً من التكريمات بل مزيداً من التحويل: من الذكرى إلى العمل، من الصورة إلى الفكرة، من الخطاب إلى التدريب، من الاحتفال إلى الاستثمار في الإنسان. وإذا كان مهرجان بغداد الدولي للمسرح قد نجح في جمع الفنانين العرب والعالميين على خشبةٍ واحدة، فإن التحدي الحقيقي يبدأ بعد إسدال الستار: كيف نُبقي هذه الخشبة مشتعلة في وعي الجيل القادم؟ كيف نحول هذا الزخم المؤقت إلى مؤسساتٍ دائمة تنتج فناً لا حدثاً؟

الذاكرة ليست مكاناً نعود إليه، بل طاقةً ينبغي أن تُستثمر. الوفاء الحقيقي لا يعني أن نقف إجلالاً للماضي، بل أن نمنح ما بدأه الآخرون شكلاً جديداً في الحاضر. فالعراق لا يحتاج إلى مزيدٍ من المهرجانات، بل إلى ذاكرةٍ تعمل كمعملٍ لا كأرشيف. الذاكرة التي تتوقف عن الإنتاج تموت، حتى لو ازدادت صورها لمعاناً.
لأنّ الذاكرة، مهما كانت مضيئة، لا تبني المستقبل وحدها؛
الذي يبنيه هو أن نحمل تلك الذاكرة ونسير بها إلى الأمام،
لا أن نتركها معلّقةً على الجدار مثل مشهدٍ أخيرٍ بلا إعادة عرض.

الوسوم: