محمد الكلابي
هل تُقاس شرعية السياسي بما يعلنه من نوايا أم بما يتركه من أثر؟ هذا السؤال لم يكن تنظيراً أكاديمياً عند ماكس فيبر، بل تشخيصاً لفارق جوهري بين نوعين من الأخلاق: الأولى هي أخلاق القناعة، حيث يطمئن السياسي لصفاء مقصده ولو انتهى قراره إلى الفشل، والثانية هي أخلاق المسؤولية، حيث يُوزَن كل قرار بميزان نتائجه وعواقبه لا بمجرّد النية. في بلدٍ مثل العراق، أُنهك بعقود من ارتجال القرارات وإطفاء الحرائق اليومية، تبدو العودة إلى “أخلاق المسؤولية” أقرب إلى ضرورة وجودية لا مجرد خيار نظري.
في هذا السياق برز رئيس الوزراء السيد محمد شياع السوداني. لم يقدّم نفسه مخلّصاً أسطورياً ولا خطيباً شعبوياً، بل رجل إدارة يراهن على الزمن الطويل، حتى لو كانت كلفته قاسية في اللحظة القصيرة. لهذا بدا مساره مختلفاً: لا إدارة أزمةٍ تُستنزف كل يوم، بل إدارة مشروع يراكم الأثر لسنوات قادمة.
يمكن قراءة هذا التحوّل من خلال ثلاثة مسارات متداخلة: الزمن، المخاطر، والشبكات. في الزمن، حاول السوداني أن يُخرج الدولة من منطق “اليوم بيومه” إلى منطق العقد الطويل. ما حدث في ميناء الفاو وطريق التنمية لم يكن تكراراً لوعود قديمة، بل نقلة إلى اتفاقات دولية موقّعة، تربط العراق بممر إقليمي يضعه في قلب التجارة بين الخليج وتركيا وأوروبا. هذه ليست خطوة إسفلت وحديد، بل إدراك أن الجغرافيا أصلٌ يمكن أن يُستثمر كما يُستثمر النفط.
أما في الطاقة، فقد جاء تفعيل صفقة توتال إنيرجيز العملاقة (27 مليار دولار) باعتبارها رهاناً على استقلال تدريجي. غازٌ مصاحب يُلتقط بدل أن يُحرق، محطة ماء بحري تُغذّي الحقول، ومزرعة شمسية تفتح باباً للمتجدّد. ليست هذه وعوداً تُستهلك في خطاب، بل عقوداً تمتد خمسةً وعشرين عاماً، تصنع بُنية تحتية تعيد رسم علاقة العراق بالطاقة وبالجار الإيراني معاً.
في المخاطر، لم يكتفِ السوداني بردّ الأزمات كما اعتادت الحكومات السابقة، بل وزّعها وهذّبها. في النقد مثلاً، اختار الانضباط لا التنازل: شدّد على التحويلات الرسمية، قلّص السحوبات النقدية بالدولار، وأجبر السوق على التكيّف مع القنوات المراقبة. قد تكون هذه قرارات موجعة في اللحظة القصيرة، لكنها صنعت سياجاً ضرورياً ضد الانفلات والعقوبات. ومن الباب نفسه جاء تشريع المدفوعات الإلكترونية وإلزام المؤسسات بالتحصيل الرقمي؛ إجراء يبدو تقنياً، لكنه في الجوهر إضعاف للبنية التي يتغذّى منها الفساد. هنا تتضح فلسفة القرار: لا مطاردة لكل فاسد، بل تقليل قابلية النظام للفساد أصلاً.
وفي الشبكات، أعاد السوداني التفكير في الدولة كمنظومة مترابطة لا وزارات معزولة: ميناء الفاو لا معنى له بلا سكك، والسكك لا جدوى منها بلا طاقة مستقرة، والطاقة تحتاج تمويلاً منضبطاً، والتمويل لن ينضبط من دون رقمنة التحصيل والجباية. بهذا المعنى، كل قرار عنده جزء من شبكة، لا جزر منفصلة. وهذا بالضبط ما يُحوّل الدولة من جهازٍ مرتجل إلى منظومة تخطّط.
بطبيعة الحال، لا يمكن إغفال الكلفة: الموازنات الثلاثية الأخيرة أثقلت الدولة بإنفاق ضخم وتوظيف واسع، والقطع في آب ما زال يذكّر الناس أن أثر التخطيط لا يظهر في موسم واحد. النقد مشروع والاعتراض منطقي. لكن معيار الإنصاف هو متابعة المؤشرات: كم غازاً يُلتقط بدل أن يُحرق؟ ما نسبة التحصيل الحكومي الإلكتروني؟ كم تقلّصت الفجوة بين الرسمي والموازي؟ ما نسب إنجاز الفاو والسكك؟ تلك هي أسئلة أخلاق المسؤولية، لا أسئلة المزاج اللحظي.
الخلاصة أن السوداني لم يقدّم جنّة غداً، لكنه حاول أن يحرّر العراق من لعنة الأمس: الارتجال. ما يميّزه ليس أنه أكثر طموحاً، بل أنه أكثر واقعية؛ لا يُقنع الناس بخطابٍ دافئ بل بعقودٍ باردة، ولا يركّز على النية بل على النتيجة. وفي هذا يكمن سر التحوّل: أن ننتقل من دولةٍ تبرّر عجزها بحسن القصد، إلى دولةٍ تُقاس قدرتها بما تحسن التخطيط له. في عراقٍ استنزفه التخبّط، ربما تكون هذه البداية المتواضعة—لو كُتب لها الاستمرار—أول ملامح علاجٍ حقيقي لا مسكّن عابر.
