آمنة حامد :
رغم أن بغداد هي المدينة الأكبر سكاناً في العراق، وموطن التنوع الثقافي والديني والاجتماعي الذي يعكس صورة البلاد بأكملها، إلا أنها اليوم تبدو أكثر عزلة سياسياً من أي وقت مضى. فالعاصمة التي تضم الملايين لا يمثلها أبناؤها في البرلمان أو الحكومة، بل تدار سياسياً من شخصيات مرتبطة بأحزاب وتيارات خارجها.
هذا الوضع لم يأتِ صدفة، بل كان نتيجة تراكمات تاريخية من القمع السياسي لممثلي بغداد. فمنذ عقود، كان الصوت البغدادي عرضة للتهميش والإقصاء. الحكومات المتعاقبة تعاملت مع أي محاولة لبروز نخب محلية مستقلة على أنها تهديد يجب كبحه. تم التضييق على القوى المدنية، ملاحقة الأصوات المستقلة، وتفكيك أي محاولة لتشكيل هوية سياسية بغدادية صافية. ومع مرور الوقت، تفاقم هذا النهج حتى وصل الحال إلى ما نراه اليوم: غياب شبه كامل لتمثيل أبناء العاصمة في مراكز القرار.
إلى جانب ذلك، شهدت بغداد قمعاً متواصلاً للحريات العامة، على الرغم من أنها المدينة التي طالما اشتهرت عبر تاريخها بثقافة مدنية منفتحة، وحياة فكرية واجتماعية نابضة. حرية التعبير والتجمع السلمي، وهي من ركائز المدنية، واجهت في بغداد تضييقاً ممنهجاً، سواء عبر القيود الأمنية أو التدخلات السياسية. كل ذلك جعل العاصمة التي كانت منبعاً للفكر والثقافة، مكاناً يتراجع فيه الفضاء العام، ويُفرغ من دوره كمساحة حرة للنقاش والتغيير.
وكون بغداد صاحبة أكبر كتلة سكانية وأكثر المدن العراقية تنوعاً كان من المفترض أن يمنحها وزناً سياسياً خاصاً، لكن ما حدث هو العكس: تهميش مستمر للقضايا اليومية لأهل العاصمة، مثل تردي الخدمات، وتدهور البنية التحتية، وتزايد الضغوط المعيشية. كل ذلك دون أن يظهر ممثل حقيقي يضع هذه الملفات في مقدمة الأولويات الوطنية.
والأخطر أن هذا الفراغ أتاح للأحزاب أن تتعامل مع بغداد كغنيمة انتخابية، بدلاً من أن تكون فضاءً سياسياً يعكس إرادة سكانها. وهكذا تحولت العاصمة إلى مركز للسلطة من دون أن تكون صاحبة سلطة، وإلى مدينة حاضرة في الأرقام والديموغرافيا، لكنها غائبة في التمثيل والمضمون السياسي.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد؛ بل أصبحت بغداد الملاذ الانتخابي لكل من لا يملك قاعدة شعبية أو موارد حقيقية في محافظته. فالكثير من المرشحين الذين فشلوا في كسب ثقة جمهورهم المحلي، يجدون في العاصمة أرضاً بديلة للترشح، مستفيدين من اتساع الدوائر الانتخابية وتشتت الأصوات. وهكذا تحولت بغداد إلى ساحة مفتوحة للجميع، باستثناء أبنائها أنفسهم، الذين يُفترض أن يكون لهم الصوت الأول والأكبر في تقرير مصير مدينتهم.
