فاروق الرماحي
منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921، ظلّت المسألة الكردية واحدة من أعقد الإشكالات التيواجهتها بغداد.
فالعراق، على تعدديته القومية والمذهبية، بُني على مركزية صارمة ورثها عن العثمانيين والانتدابالبريطاني، الأمر الذي أنكر على الأكراد حقوقهم القومية المشروعة، وتعامل معهم كأقلية يجب استيعابهاضمن هوية الدولة الجديدة، فيما اعتُبر أي سعي نحو تقرير المصير تهديدًا لوحدة البلاد.
في العهد الملكي، قُدمت وعود متكررة بمنح الأكراد حقوقًا ثقافية وإدارية، لكنها بقيت حبرًا على ورق،فيما كانت المواجهة العسكرية هي الرد الدائم على أي حركة احتجاج أو انتفاضة، مما عزز انعدام الثقةوأدخل العلاقة بين بغداد والأكراد في حلقة مفرغة من التمرد والقمع. ومع ثورة 14 تموز 1958 بقيادةالزعيم عبد الكريم قاسم، بدا وكأن صفحة جديدة قد فُتحت حين اعترف الدستور المؤقت بالقوميةالكردية، لكن الخلافات حول حدود الحكم الذاتي سرعان ما تحولت إلى صدام مسلح.
ومع الوصول الثاني لحزب البعث إلى السلطة عام 1968، وُقعت اتفاقية آذار 1970 التي نصت على منحالأكراد حكمًا ذاتيًا، لكنها لم تُنفذ عمليًا. بل سرعان ما تجددت المواجهات، وتحوّل الشمال إلى ساحةحرب مفتوحة. وفي ثمانينيات القرن الماضي بلغ الصراع ذروته مع حملات الأنفال التي أبادت القرىالكردية، ومجزرة حلبجة الكيمياوية عام 1988 التي حفرت جرحًا عميقًا في الذاكرة الكردية.
بعد 2003، بدت الأمور مختلفة مع سقوط نظام صدام حسين وصياغة دستور 2005 الذي أقرّ النظامالفيدرالي ومنح إقليم كردستان صلاحيات واسعة، شملت برلمانًا وحكومة وقوات البيشمركة وحصة منالموازنة الاتحادية. غير أن هذه الفيدرالية لم تتحول إلى شراكة متوازنة، بل تحولت إلى ساحة نزاعجديدة. فالحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود برزاني دفع باتجاه الانفصال، حتى وصل إلىاستفتاء 2017 الذي سقط سريعًا وخسر الأكراد على أثره كركوك ومكاسب سياسية عديدة. واليوم، يطرحقادة الإقليم فكرة تحويل العراق من دولة فيدرالية إلى دولة كونفدرالية، وهو ما يُقرأ كخطوة قانونية فيطريق الانفصال.
لكن الأهم أن المسألة الكردية لم تكن شأنًا داخليًا صرفًا، بل ظلّت ورقة ابتزاز تستخدمها القوى الإقليميةوالدولية للضغط على بغداد. ولعل أبرز مثال ما جرى في سبعينيات القرن الماضي، حين دعم شاه إيرانالحركة الكردية بالمال والسلاح، لكن ما أن وقع صدام حسين اتفاقية الجزائر عام 1975 متنازلًا عن الضفةالشرقية لشط العرب المنفذ البحري الوحيد للعراق حتى أوقف الشاه دعمه فورًا، فانهارت الحركة فياليوم التالي وفرّ قادتها. هذا النموذج يعكس حقيقة متكررة ، أن القضية الكردية كانت دائمًا سكينًا فيخاصرة الدولة العراقية، تُستخدم حينًا وتُركن حينًا آخر تبعًا لمصالح العواصم المجاورة. ولم يكن يهم إنكان النظام ملكيًا أو جمهوريًا أو ديمقراطيًا بعد 2003، فالمعادلة واحدة: إضعاف بغداد عبر الورقةالكردية.
وبين تطلعات الأكراد المشروعة وبين استغلال هذه القضية من قبل العائلات الحاكمة في الإقليم والدولالإقليمية والدولية، تبقى المسألة الكردية معلقة بين حلم مؤجل وأداة ابتزاز. فالجغرافيا والواقعالإقليمي لا يسمحان بقيام دولة كردية مستقلة، والانقسامات الداخلية والفساد يضعفان المشروع منالداخل. وما دام الرهان على الخارج مستمرًا، ستظل الأحلام تتبدد في عواصف الريح، تاركةً الأكرادوالعراقيين معًا في دوامة أزمة لا تنتهي .
