منصة ثقافية أدبية

الأمية السياسية


بتاريخ سبتمبر 9, 2025 | في مقالات

المشاهدات : 145


محمد الكلابي

السياسة فعل يقوم على القراءة. من يقرأ يصنع قراراً ومن لا يقرأ يصنع كارثة. والكارثة الكبرى أن يتصدر المشهد من يملك سلطة القرار وهو عاجز عن أبجديات الفهم. هذا ما انكشف في لقاء على قناة الفرات جمع المقدم علي وجيه بالنائب المستبعد سجاد سالم، حين سأل الأخير ببرود: «أين قالت إسرائيل إنها تريد احتلال الأرض العربية؟». سؤال صادم في جهله، فردّ المقدم بجملة حاسمة: «سأهديك الموسوعة اليهودية لعبد الوهاب المسيري». لم يكن ردّاً إعلامياً عابراً، بل صفعة كشفت مأساة أوسع: سياسي يجلس باسم الشعب وهو لا يملك حتى ذاكرة خصمه.

من هذه اللحظة الصغيرة يمكن قياس حجم الخلل. إسرائيل لم تُخف مشروعها قط؛ من هرتزل إلى نتنياهو، الهدف مكتوب ومعلن. بينما عندنا، السياسي يتعامل مع المعلومة كترف، يدخل إلى الاستوديو كما يدخل إلى دردشة عابرة، يظن أنّ ارتجاله يغني عن أي مرجع، وأن فصاحته بديل عن أي معرفة.

هنا تتجسد الأمية المتعلمة…

سياسي يجيد لغة الإعلام ويحمل شهادات، لكنه عاجز عن أبسط وعي سياسي. يتحدث عن المدنية وهو لا يعرف خرائط النزاع التي تحدد مصير وطنه. وهكذا يتحول موقعه من ممثلٍ للوعي الجمعي إلى ثغرةٍ مفتوحة تمنح خصمه تفوقاً مجانياً.

والأخطر أنّ غياب المعرفة لا يترك فراغاً فقط، بل يخلق قراراتٍ مضادة لمصلحة البلد. السياسي الجاهل يوقّع صفقات بلا إدراك، يطلق تصريحات تربك الداخل وتمنح العدو فرصاً لم يحلم بها. الفاسد يسرق خزينة، أمّا الجاهل فيبدّد الاتجاه كله. وهذا ما يصح تسميته خيانة معرفية: جريمة تُرتكب في العلن، وباسم الشعب.

غير أن تحميل المسؤولية للسياسي وحده يخفي بعداً أخطر: ثقافة عامة تحتقر المعرفة وتكافئ السطحية. في وعينا الجمعي، السياسي الذي يقرأ يُتَّهم بالتنظير، أما الذي يثرثر فيُقدَّم كـ“قريب من الناس”. نحن لا ننتج السياسي الجاهل فقط، بل نمنحه الشرعية، نصفّق لجهله لأنه يشبهنا في كسله الفكري. هنا تتحول الأمية السياسية من خللٍ فردي إلى مرضٍ مجتمعي متوارث.

بهذا يتضح المشهد:

طرف يخطط بموسوعات ومعاهد أبحاث، وطرف آخر يستخف بالقراءة كأنها زينة. لذلك يتقدم المشروع الأول بخطواتٍ واثقة، بينما يتعثر خطابنا في الفراغ.

وما يجعل المشهد أكثر قسوة أن غياب القراءة لا يعني فقط أنّ السياسي يجهل العدو، بل يعني أنه يجهل نفسه أيضاً. حين يتحدث بلا مرجع ولا وعي، فهو لا يعرّي عجزه وحده، بل يفضح فراغ الدولة التي أفرزته: دولة لا تملك مؤسسات تفحص وعي ممثليها، ولا آليات تحاسبهم على جهلهم، وكأنّ الجهل صار شرطاً للترقي لا عائقاً أمامه.

السياسي الذي لا يقرأ لا يقف عارياً أمام عدوه فحسب، بل يجرّ شعبه إلى الميدان أعزل من أي فكرة. هكذا يصبح الصراع غير متكافئ حتى قبل أن يبدأ: طرف يملك مشروعاً مرسوماً بالمعرفة، وطرف يذهب إلى معركة مصيرية بخطابٍ مرتجل.

والمأساة أنّ هذا الجهل لا يُهزم به السياسي وحده، بل تنهزم معه الأمة كلها. لأنّ الدولة التي تسمح لممثليها بالجهل تتحول ببطء إلى دولة بلا ذاكرة، بلا خريطة، بلا مستقبل. وما لم يُكسر هذا النمط، سنجد أنفسنا أمام النتيجة الحتمية : الأمية السياسية لا تفضي إلى عجزٍ مؤقت، بل إلى زوال الدولة نفسها.

الوسوم: