منصة ثقافية أدبية

بان لم تمت… قُتلت باسم الدولة


بتاريخ أغسطس 12, 2025 | في اراء حرة

المشاهدات : 170


محمد الكلابي

في البلدان التي تتنكر لنفسها، تصبح الحقيقة عبئاً، والصمت فضيلة، والموت مجرد تسوية إدارية. هناك حيث تُدفن القضايا قبل الأجساد، وتُكتب التقارير قبل أن تُغسل الجثث، ماتت بان  لا لأن الحياة خانتها، بل لأن الدولة طعنتها من الخلف

ما حدث لبان ليس لغزاً جنائياً، بل مرآة مشروخة لنظام يعرف كيف يدفن ضحاياه دون أن يلطخ يديه. لم تكن تلك الطبيبة الشابة مجرد رقم في سجل الوفيات، بل شاهدة محتملة على ما لا يجب أن يُقال. شاهدة على خلل، على صفقة، على متهم كان يُراد له أن يظهر ضحية. ولهذا، لم يتركوا لها خياراً.

من يعرف العراق جيداً، يعرف أن الجريمة لا تُرتكب دائماً بسلاح، بل بالتساهل. تعرف أن أداة القتل قد تكون تقريراً مفقوداً، أو كاميرا مُعطلة، أو شرطيًا لا يسأل، أو قاضياً يوقّع دون أن يقرأ. تعرف أن الضحية تُعزل قبل أن تُقتل، وأن الجاني غالباً يرتدي بذلة رسمية، ويجلس في مكان لا تطاله المحاسبة.

لماذا توقفت الكاميرات فجأة؟ لماذا لم يُبلغ عن الوفاة فوراً؟ لماذا تم تنظيف مسرح الحادث؟ لماذا سارع البعض لترويج رواية الانتحار قبل صدور أي تقرير رسمي؟

لا أحد يطرح هذه الأسئلة، لأن الإجابة عنها تقود إلى شبكة لا يريد أحد أن يراها. شبكة تبدأ من جريمة سابقة، وتمرّ عبر رفض بان التواطؤ، وتنتهي بتصفية الضمير بطريقة تبدو “منطقية” أمام القانون، لكنها مفبركة أمام أي عقل حي.

نحن لا نتحدث عن موت، بل عن قتل بدم بارد، أُدير بأسلوب نظيف جداً، محترف جداً، خفي جداً، كما تفعل الأجهزة حين تُنهي وجود شخص لا يُناسب المرحلة. والقاتل هذه المرة لم يكن شخصاً، بل منظومة ترفض أن يتحول أحد موظفيها إلى شاهد. لأن في هذا البلد، من يرى كثيراً… يُغلق فمه أو يُغلق ملفه.

لا شيء يفسر ما جرى إلا شيء واحد: بان قالت “لا” في الوقت الخطأ، أمام الشخص الخطأ، في النظام الخطأ. وهذا وحده يكفي للحكم عليها بالإعدام. لا رسمي، بل ناعم، لا فوري، بل مدبّر. كأن الدولة لم تقتلها، لكنها صممت المسرح كي تموت وحدها، وتبدو كأنها اختارت الخروج.

لكن الحقيقة أن بان لم تختر. اختاروا لها.

اختاروا أن يُطفئوا الكاميرات. أن يُخفوا الأدلة. أن يُسرّبوا الخبر كما يريدون. اختاروا أن يروّضوا الغضب العام برواية جاهزة: “انتحرت… وكانت تعاني”. لم يقولوا ماذا كانت تعاني؟ ومن كان السبب؟ ولماذا فجأة أصبحت ملفاً يُراد غلقه؟

المأساة لا تبدأ بوفاة بان، بل بما تلاها: صمتٌ ثقيل، بيانات هزيلة، تسريبات متضاربة، وتحقيق هشّ يُدار على أطراف الأصابع، لا ليكشف شيئاً، بل ليمتص الصدمة. وكأن المطلوب ليس الحقيقة، بل الوقت. الوقت الكافي كي ننسى، أو نُرهَق، أو ننشغل بجريمة تالية.

لكن جريمة بان يجب ألا تُنسى. لأنها ليست “قضية”، بل علامة. علامة على أن هذا البلد لم يعد فيه مكانٌ للذين يملكون ضميراً حياً ويرفضون تزييف التقارير. علامة على أن الأجهزة التي تتباهى بالأمن، تفشل في حماية من لا ينتمون إلى مافيات النفوذ. علامة على أن القتل لا يحتاج إلى رصاصة، بل إلى إدارة.

بان لم تُقتل وحدها. قُتلت معها فكرة أن الفرد يمكن أن يصمد في وجه التواطؤ. قُتلت معها ثقة الناس بأن العدالة لا تزال حية. قُتلت معها صورة الطبيب كضمير مهني، وصورة الدولة كحامية. وما بقي بعدها ليس جسدًا، بل فضيحة — لا تُغسل بالماء، ولا تُطمس بلجنة تحقيق.

ولهذا، فالصمت في هذه القضية خيانة.

والتبرير جريمة.

والتساهل تواطؤ.

والنسيان عار.

الوسوم: