منصة ثقافية أدبية

المسرح عراقي… والمخرج أجنبي


بتاريخ أغسطس 12, 2025 | في مقالات

المشاهدات : 167


محمد الكلابي

في الخطاب العراقي، هناك اتهام يتكرر حتى أصبح أشبه بالمسلّمة: الحشد الشعبي أداة لإيران، وإيران تتحكم بالعراق. لم يعد هذا القول حكراً على المنابر السياسية الساخنة، بل تسلل إلى أحاديث الناس ومقالات الرأي، وتبنّاه حتى من يُفترض أنهم أهل تحليل وتدقيق، يرددونه بثقة وكأنه حقيقة نهائية لا تقبل النقاش.

كنتُ من بين الذين أخذوا هذه الرواية كما هي، حتى جاء المشهد الذي هز قناعتي: طائرات إسرائيلية تضرب أهدافاً إيرانية من أجواء العراق، اثني عشر يوماً متتالية، دون أي رد من الدولة التي يُقال إنها تحت النفوذ المطلق لطهران. عندها تساءلت: من يملك هذه السماء فعلاً؟ من يقرر أن تصمت بغداد؟ ومن الحاكم الذي لا يظهر على المسرح؟

المسألة أوسع من إيران. نحن أمام صورة عدو صيغت بعناية في الوعي العام، ليكون المتهم الدائم والمخرج الجاهز لتفسير كل أزمة. عدو قريب بما يكفي ليبدو خطره واقعياً، ومختلف بما يكفي ليُعامل كغريب. هذه الصورة لم تُترك للمصادفة؛ هناك ماكينة إعلامية وسياسية تعمل بلا توقف على إعادة إنتاجها: نشرات أخبار تنتقي ما يخدم الرواية، مقالات رأي تعيد الخطاب بلا مساءلة، ومنصات تواصل تصنع من أي حادثة دليلاً جديداً على “الهيمنة الإيرانية” حتى تتحول إلى يقين جماعي.

لكن إذا انتقلنا من الخطاب إلى الوقائع، سنجد أن موازين القوة في العراق لا تُرسم في طهران وحدها. الدينار العراقي مقيد بالدولار الذي يدار من الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، ما يجعل السياسة النقدية تحت تأثير خارجي مباشر. النفط يُنتج ويباع تحت رقابة غربية صارمة، أجواء العراق مغلقة بمفاتيح قيادة التحالف، الدفاع الجوي معطّل بقرار سياسي قبل أن يكون تقنياً، والقوانين الكبرى والعقود الاستراتيجية لا تتحرك إلا بعد موافقة أمريكية. هذه ليست تفاصيل هامشية، بل علامات صريحة على سيادة منقوصة.

إيران تشاركنا الدين والتاريخ، لكنها ليست من لغتنا أو قوميتنا، وهذا الموقع الرمادي يجعلها الخصم المثالي في المسرح السياسي. حضورها حقيقي، لكن حجمها في وعينا أكبر من حجمها الفعلي، لأنها تؤدي دوراً رسمه مخرج آخر: دور العدو الذي يستحوذ على الأضواء، بينما الحاكم الفعلي يقف خلف الكواليس، يضبط المشهد ويحدد متى يبدأ وينتهي، تاركاً الجمهور مشدوداً إلى ما يراه أمامه.

هكذا يصبح تضخيم الحضور الإيراني نتيجة لفراغ السيادة، لا دليلاً على سيطرة مطلقة. والأخطر أن هذا التضخيم ليس خطأً بريئاً، بل عملية واعية لإدارة الإدراك: لعبة تُدار بدقة بحيث ننشغل بالظل، بينما اليد التي تمسك بالخيوط تبقى خارج مدى رؤيتنا.

هنا يتضح أن المعركة الحقيقية ليست على الأرض، بل في العقول. وهذا ما عبّر عنه جورج أورويل في روايته 1984 حين كتب ( أن السيطرة على إدراك الناس أخطر وأعمق من السيطرة على واقعهم؛ لأن من يملك وعيك، يملكك كاملاً، حتى وأنت تظن أنك حر. )

واليوم نعيش هذا المعنى بلا أي مجاز حدود الممكن والممنوع تُرسم في أماكن بعيدة عن بغداد، سماؤنا تُغلق وتُفتح بإشارة لا تصدر منا، وقراراتنا الاقتصادية والسياسية تُفرض قبل أن نفكر في مناقشتها.

وحين نصل إلى هذه النقطة، يصبح السؤال “هل إيران تحكم العراق؟” سؤالاً مضللاً. السؤال الأهم: من المستفيد من أن نبقى مقتنعين بهذه الإجابة؟ عندها سنكتشف أننا لم نكن نبحث عن الحقيقة بقدر ما كنا نؤدي دوراً في مسرحية لم نكتب نصها، ومع ذلك نحفظه ونردده بإتقان، بينما المخرج الحقيقي يراقبنا من العتمة.

م: الحشد الشعبي قوة عراقية رسمية تتبع القائد العام للقوات المسلحة، أي رئيس الوزراء، ولا تتلقى أوامرها من إيران، وأي ادعاء بغير ذلك هو جزء من سرديات سياسية خارجية.

الوسوم: