منصة ثقافية أدبية

العمالة في زمننا


بتاريخ أغسطس 11, 2025 | في اراء حرة

المشاهدات : 60


فلاح الكلابي

في نقاش مع أحد الأساتذة الأفاضل، دار حديث حول شخص يُقال إنه يعمل لصالح دولة أجنبية. كان الاعتراض أن مثل هذا الكلام لا يُصدق، لأن عامة الناس لا يمكنهم معرفة مثل هذه الأمور. في البداية بدا هذا الرأي منطقياً لكن بعد التفكير بالموضوع ومراجعة التاريخ والواقع، تبين أن المسألة ليست بهذه البساطة.

صحيح أن عامة الناس لا يملكون ملفات سرية أو تقارير استخباراتية لكن هذا لا يجعلهم عاجزين عن الوصول إلى الحقيقة. فالأحداث الكبيرة تترك اثاراً، وهذه الاثار يمكن ملاحظتها وربطها للوصول إلى استنتاج منطقي، تماما كما يحكم القاضي بالقرائن إذا غابت الاعترافات أو كما يتعرف الطبيب على المرض من أعراضه قبل صدور الفحوص. المعلومة ليست ملكاً لمنصب أو جهة، بل هي ثمرة ملاحظة دقيقة وتحليل سليم وأحياناً يكون من هم خارج السلطة أقدر على رؤية الصورة كاملة لأنهم لا يخضعون لقيود المصالح السياسية أو الحسابات الضيقة.

ثم ان طبيعة البشر نفسها تجعل من الصعب ان تبقى الحقائق الكبرى طي الكتمان فالسر ينتقل من شخص إلى آخر بشكل مباشر أو عبر التلميح ومن خلال الإعلام أو الشهود، أو حتى أخطاء المتورطين أنفسهم. ومع مرور الوقت تتشكل لدى العامة صورة شبه مكتملة حتى من دون وثيقة رسمية.

التاريخ يثبت أن كثيراً من الحقائق الكبرى في السياسة والاستخبارات عرفها الناس قبل أن تعترف بها الحكومات. ولو كان منطق العامة لا يعرفون صحيحا ، لكان معنى ذلك أننا نعيش في جهل تام حتى يسمح لنا صاحب سلطة بأن يخبرنا وهذا يناقض العقل والتجربة.

ولو رجعنا إلى أحداث النظام البائد نجد مثالا صارخاً في حادثة إعدام السيد الشهيد على يد نظام البعث المقبور. إحدى التهم الموجهة إليه كانت إرساله رسالة إلى الإمام الخميني يبارك له انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وهو ما اعتبره النظام تحديا وخروجا عن السياق الدبلوماسي، بل و عمالة لدولة أجنبية. في ذلك الوقت، كانت هذه التهمة وحدها كافية لإعدام رجل.

أما اليوم، فالمشهد مختلف تماماً. هناك شخصيات معروفة تظهر في الإعلام وتعلن ولاءها لدول أخرى بكل وضوح . هذا يعلن تبعيته لإيران وذاك يؤيد السعودية، واخر يمدح تركيا، واخر يدافع عن الاحتلال. ومع ذلك، لا أحد يوجه لهم حتى تهمة شكلية.

العمالة إذا ليست شكلا واحدا . قد تكون خفية تتم في الغرف المغلقة أو علنية يفتخر بها أصحابها على الشاشات. وعندما تجتمع العمالة مع المصالح التجارية والاقتصادية، يصبح بيع الوطن أمرا واقعا وربما بأرخص الأثمان.

الخلاصة أن إدراك العمالة لا يتطلب منصبا أو وثائق سرية بل يتطلب عقلا يربط الأحداث ويقرأ ما بين السطور، ووعياً بأن الحقيقة، مهما حاول البعض حجبها تجد طريقها دائماً إلى العلن.

 

الوسوم: