بقلم: د. سهير عمارة
قد يغفر التاريخ للغزاة حين يرحلون، لكن لا يغفر لمن باع الوطن وهو يدّعي حمايته.
ولعل ما جرى في مصر بعد 23 يوليو 1952 هو أعنف عملية خداع تعرض لها شعب بأكمله، حين تمّ استبدال الاستعمار الأجنبي باحتلال عسكري محلي، لا يرحم ولا ينسحب، ولا يرضى بدولة إلا إن كانت تحت وصايته.
الناس هلّلوا للثورة، لكنهم لم يعلموا أن “الضباط الأحرار” ما كانوا أحرارًا إلا من الضمير، وأنهم لم يُسقطوا ملكًا ليقيموا عدلًا، بل أزاحوا التاج ليقتسموا العرش.
محمد نجيب: الرئيس الشريف الذي دُفن حيًا
محمد نجيب لم يكن مجرد أول رئيس لجمهورية مصر… كان مشروع وطن.
جاء صادق النية، مؤمنًا بأن الجيش يجب أن يعود إلى ثكناته بعد تسليم السلطة للشعب.
لكن في حضرة الجشع، لا مكان للشرف.
رفض عسكرة الدولة… فكان جزاؤه العزل والاختفاء القسري.
طالب بانتخابات حرة… فحاصروا بيته ومنعوا عنه الصحف والناس.
أراد دولة قانون… فقالوا عنه “يشق الصف الوطني”.
مآسي حقيقية أخفاها التاريخ:
• عاش نجيب ما يقارب 30 عامًا في عزلة أشبه بالحبس المنزلي دون تهم.
• تم وضعه تحت حراسة أمنية تمنعه من الحديث مع الصحفيين، أو استقبال الضيوف.
• حُرم من راتبه ومن حقوقه كرئيس سابق، حتى في العلاج.
• تم حذف اسمه من الكتب المدرسية لعقود.
• بل إن جنازته كانت خجولة، بلا مراسم تليق برئيس حكم مصر.
عبد الناصر… الزعيم المزيف وصاحب المسرحية الطويلة
عبد الناصر لم يكن الزعيم الذي أوهمونا به.
كان خريج تنظيمات سرية، ارتقى على أكتاف غيره، ثم أزاحهم واحدًا تلو الآخر.
أولهم محمد نجيب، ثم زملاؤه، ثم المعارضة كلها.
أمم الصحافة، وأغلق الأحزاب، وفتح السجون.
قالوا عنه قائد الكرامة، بينما في عهده:
• تم تأميم الممتلكات لا لصالح الشعب، بل لتوزيعها على الضباط والنخبة الجديدة.
• سقطت سيناء والجولان والضفة في نكسة 1967، ولم يُحاسب أحد.
• ارتفعت ميزانيات المخابرات، وانهارت الخدمات والتعليم.
• اختفى القانون، وظهر “التقرير الأمني” كفيصل وحيد للترقي والعقاب.
لم يكن عبد الناصر حاكمًا وطنيًا، بل ضابطًا امتلك الميكروفون والميليشيا والإعلام.
ما لا يُقال عن الضباط الأحرار:
• من استولوا على بيوت الملك فاروق وزوّروها عقاريًا بأسمائهم
• من عيّنوا أبناءهم سفراء وقضاة وهم بالكاد يقرؤون
• من ربطوا المناصب بالولاء، لا بالكفاءة
• من اعتبروا مصر ثكنة، والشعب رعية لا رعايا
كانوا “أحرارًا” فقط في نهب البلد، وتدمير مؤسساته، وملاحقة كل صوت حرّ بالتعذيب أو الاغتيال المعنوي أو الجسدي.
الحقيقة التي يخشونها
الثورة لم تكن تحريرًا، بل تبادل مواقع.
والجمهورية لم تكن ميلادًا جديدًا، بل قناعًا مهترئًا لحكم الفرد.
والحاكم الحقيقي لم يكن عبد الناصر، بل “المكتب السياسي للمخابرات”، الذي يصنع ويُسقط ويُصفّي.
كل من قال “لا” منذ 1952 إلى اليوم، كان مصيره السجن أو النفي أو العزل أو الموت.
⸻
✍️ رأي الكاتبة: د. سهير عمارة
أنا لا أكتب مجرّد مقال، بل شهادة على جريمة.
ما جرى لمحمد نجيب هو عملية اغتيال سياسي وإنساني وأخلاقي.
رجل شريف قال: “دعوا الشعب يحكم”، فردوا عليه: “بل نحكم نحن، إلى الأبد”.
من يرفعون صورة عبد الناصر اليوم على الجدران، لا يعرفون أنه أول من علّق الدستور على المشانق، وأوّل من زرع الخوف في وجدان الشعب، وأوّل من استبدل صوت البرلمان بصوت المذياع الذي يمجّده.
الرجل الذي نكّس رايات مصر في 67، وأدخلنا في حروب لا نملك سلاحًا لها، ثم مات قبل أن يعتذر.
أنا لا أكتب للخصومة، بل للتاريخ.
ولا أطلب محاكمة أموات، بل وعي أحياء.
حتى لا نُعيد القصة نفسها تحت لافتات مختلفة، وحتى لا نمجّد القمع إن لبس زي الوطنية.
ليعلم هذا الجيل أن أول رئيس للجمهورية لم يمت بكرامة، بل كُسرت روحه، وحُذف اسمه، وجُرّد من كل شيء… فقط لأنه أراد أن تكون مصر حرة لا سجينة الجنرالات.
وإن لم نُسمِّ الأشياء بأسمائها اليوم، فإن أجيالًا قادمة ستعيش في الزيف ذاته، وتُصفّق للجلاد، وتبكي على الضحية دون أن تعرفها.
⸻
✒️ بقلم: د. سهير عمارة
لم أكتب التاريخ
… لكني فضحت من زوّروه
