ا. د عبد الستار الجميلي
طرحت العدالة الإنتقالية نفسها كمفهوم ومصطلح بعد نهاية الحرب العالمية الثانية من خلال محاكمات نورمبرغ، وخلال مرحلة الحرب الباردة وبعد نهايتها، في الدول الخارجة إما من نزاع مسلح(داخلي أو دولي) أو نظام إستبدادي أو إحتلال أجنبي، على أساس أنها مجموعة من الآليات والعملياتوالمبادرات التي تهدف إلى معالجة الإنتهاكات والجرائم الجسيمة التي حدثت في الماضي، من خلال: الكشف عن حقيقة ما حدث؟ وكيف حدث؟ ولماذا حدث؟ ومن كان مسؤولاً عن ذلك؟ وتعميمالمعلومات إلى الجمهور، بهدف العدالة والمصالحة ومنع أيّ منحى للثأر والإنتقام، وذلك ضمن سياقاتمحاكمة قانونية عادلة وفق المعايير الدولية لمرتكبي الإنتهاكات وغيرها من أشكال المساءلة، بما يحققالعدالة للضحايا وجبر الضرر المادي والمعنوي وإعادة تأهيلهم ودمجهم في المجتمع، وما يتطلب ذلكمن ضرورة إصلاح للمؤسسات التي أُرتكبت في ظلها الإنتهاكات بما يضمن إعادة هيكلتها وتطهيرها منالفساد وعدم الإفلات من العقاب ومنع تكرار الإنتهاكات، ومن ثم الإتجاه نحو بناء الثقة بين المجتمعوالسلطاتوتعزيز سيادة القانون بإنشاء نظام قانوني عادل وشفاف وتحقيق المصالحة الوطنية عبر آلياتالتعويض والإعتذار والمشاركة المجتمعية والسياسيةالشاملة، وتأطير ذلك بدستور إنتقالي يؤسسلدستور دائم وبناء نظام سياسي جديد يقوم على مبدأ المواطنة وتلافي أوجه القصور التي قادتإلىإنتهاكات الماضي.. وبعد الإحتلال الأمريكي للعراق تمّ تداول مفهوم العدالة الإنتقالية ضمن أجواءكيفية معالجة إنتهاكات النظام السابق وبناء نظام سياسي جديد. وفي هذا الإطار تم فرض آليات وإصدارقوانين ضمن مفهوم ملتبس ومتعثر وإنتقائي لمفهوم العدالة الإنتقالية كان أبرزها: قانون الإحتلال لإدارةالدولة العراقية كدستور إنتقالي، وقانون إجتثاث البعث الذي تحول إلى هيئة المسائلة والعدالة،والمحكمة الجنائية، ووزارة حقوق الإنسان،ومؤسستي السجناء السياسيين والشهداء، وهيئة دعاوىالملكية. لكنّما هذه الإجراءات لم تحقق حتى الحد الأدنى من أهداف العدالة الإنتقاليةالمفترضة، بلأضافت إنتهاكات ومعاناة جديدة، لأسباب متعددة: يأتي في مقدمتها الإحتلال نفسه الذي إنتهك منجانب القانون الدولي والشرعية الدولية بإحتلال دولة ذات سيادة تحت مبررات ومزاعم ثبت عدم صحتهاتماما (أسلحة الدمار الشامل، وبناء نظام سياسي ديمقراطي يحافظ على حقوق الإنسان)، ومن جانب آخرإنتهك الإحتلال سيادة العراق وإرتكب جرائم وإنتهاكات ضد الشعب العراقي ونهب ثرواته وتدميرمؤسساته وفتح حدود العراق لكل أنواع الإرهاب والتدخل والتموضع المحلي والإقليمي والدولي.. وكذلك الأسباب التي تتعلق بسيادة منطق الثأر والإنتقام وفرض نظام محاصصة طائفية وعرقية لا يمتبصلة لمفهوم الدولة الحديث وبناء الأنظمة السياسية التي من المفترض أن تقود اليها إجراءات العدالةالإنتقالية، وبدل العدالة والمصالحة بدأت مرحلة جددة من التصفيات والقمع والانتهاكات المنهجيةالمنظمة على أساس الأوهام الطائفية والعرقية المقيتة التي أحدثت شرخا عميقا وتمزقا وطنياومجتمعيا، وتم إبتلاع الدولة وفكرتها ومؤسساتها ضمن إطار دستور تقسيمي دائم مُعطِل ومُعَطَّلوديمقراطية شكلية بُنيت على الإستبداد والفساد والتبعية في صراع عبثي مرير على ثلاثية السلطةوالغنيمة والإقصاء بين كتل بغداد وأربيل.. ما مَهد لدخول العراق في أتون إرهاب داعش وداعميه فيالداخل والخارج، الذي أحدثهزة كيانية وسياسية وإجتماعية ونفسية مازالت آثارها مستمرة تتحين فرصتكرار ما حدث مستغلة متغيرات البيئة المحلية والعربية والإقليمية والدولية.. في ضوء ذلك فنحن أمامإستحقاقات عدالة إنتقالية مركبة ومتداخلة طرحتها تجربة العراق الفاشلة في العدالة الإنتقالية كمفهومومصطلح جديدين في إطار تجارب هذه العدالة في العالم.. حيث فرضت تجربة العراق سياقات أربعةللعدالة الإنتقالية لا تختلف في إنتهاكاتها من حيث الدرجة والنوع: عدالة إنتقالية في مواجهة إنتهاكاتالنظام السابق، وعدالة إنتقالية في مواجهة إنتهاكات الإحتلال الامريكي، وعدالة إنتقالية في مواجهةإنتهاكات نظام المحاصصة الطائفية والعرقية، وعدالة إتقالية في مواجهة إنتهاكات داعش الإرهابيوداعميه.. فكيف يمكن الخروج من دائرة هذه السياقات الأربعة التي تتعارض مع بعضها شكلا ومضمونا،عدالة ومصالحة، قانونا وإدارة، ونظاما ومؤسسات؟.. ثمة خيار واحد: نظام سياسي جديد يقطع جذريامع النظام السابق والإحتلال الامريكي ونظام المحاصصة، والارهاب وداعميه.. ولكن كيف؟ الإنتخابات لمتعد ذات جدوى فهي تُعيد إنتاج نفس الكتل والوجوه ومقاولي البورصة السياسية والأجندات الدوليةوالإقليمية والإستقطاب الطائفي والعرقي والمناطقي والعشائري والإستبداد والفساد والتبعية.. وهدمالدولة ومؤسساتها من جديد على طريقة الإحتلال الأمريكي لم يعد مسموحا به وطنيا وشعبيا.. والترويجللوحش الأمريكي مخلصاً لا يُعبر إلاّ عن اليأس والتأزم النفسي والمصالح الخاصة فتجربة الإحتلالالأمريكي البغيض ما زالت دماء ضحاياها غزيرة لم تجف.. ربما يكمن الحل في مرحلة إنتقالية يُشرفعليها الجيش العراقي حصراً بطريقة سلمية ومحايدة، تُطبق خلالها آلياتوإجراءات العدالة الإنتقالية وفقمعايير وطنية وقانونية وحقوقية وإنسانية في مواجهة إنتهاكات المراحل الأربع المريرة، تنتهي بدستوردائم جديد وطنيومدني وعصري جامع، يضمن هوية العراق ووحدته الوطنية وسيادته وإستقلاله، وبناءمؤسساته المدنية والعسكرية على قاعدة وطنية ومهنية صرفه، ويُعيد الكرامة والمواطنية المهدورةللمواطن العراقي في مواجهة الإستبداد والإحتلال والمحاصصة والإرهاب، ويضع أحلامنا للقانون والحقوالعدالة المغدورة على مذبح الإستبداد والفساد والتبعية، يضعها من جديد على سكة الحركة الوطنيةالعراقية الجميلة التي إنقطعت بها سبل المحطات وضيَّعت البوصلة تحت ضربات وعُمى وأوهامالطوائف والأعراق والمصالح الخارجية والخاصة.