منصة ثقافية أدبية

إيران تغيّر المعادلة


بتاريخ يونيو 17, 2025 | في مقالات

المشاهدات : 341


محمد الكلابي

في الجغرافيا السياسية، لا تُقاس التحوّلات بالضجيج، بل بالاهتزازات الصامتة التي تغيّر شكل الخرائط دون أن تُحدث صوتاً. أحيانا، لا يكون الحدث في عدد الصواريخ، بل في الرسالة التي لم تُعلن رسميا لكنها وصلت إلى كل العواصم. وأحياناً لا تبدأ الحرب بانفجار، بل بنظرة جديدة إلى المفاهيم القديمة: ماذا يعني الردع؟ من يملكه؟ ومن يصوغ شروطه؟

الرد الإيراني الأخير على إسرائيل لم يكن فعلاً عسكرياً تقليدياً، بل لحظة فلسفية تُعيد تشكيل مفهوم الردع من أساسه. لم تكن تلك الصواريخ تعبيرا عن انفعال، بل إشارة إلى انتقال في موقع القوة. ما أطلقته إيران لم يكن ذروة ترسانتها، بل عيّنة محسوبة تؤكد أن المدى أبعد مما بدا.

إسرائيل، وسط الضربات، لم تكن تخشى ما حدث، بل ما يُمكن أن يحدث لاحقًا. قلقها لم يكن من حجم الرد، بل من عمق القرار الإيراني بالتصعيد المقنّن. لحظة الإعلان، إن جاءت، ستقلب قواعد الردع رأساً على عقب، لأنها ستنقل إيران من موقع الضغط إلى موقع الهيمنة النفسية.

وهنا يُفهم الفارق بين الردّ التكتيكي والردع الاستراتيجي. الأول يضرب الهدف، والثاني يزرع القلق المستمر. ما تفعله إيران الآن هو تثبيت مناخ جديد يجعل من التفكير في تجاوزها قراراً محفوفاً بكلفة غير محسوبة.

خرجت طهران من هذه المواجهة وهي أكثر حضوراً، لا فقط بسلاحها، بل بموقعها في هندسة التوازن. لم تعد تطلب ضمانات، بل تُنتج معايير جديدة للمواجهة. انتقلت من دور الطرف المنفعل إلى موقع المُبادر في تحديد المسارات.

لكن ما لا يُقال غالباً هو أن هذا الرد لم يكن استعراض قوة بقدر ما كان تحدياً رمزياً لمنظومة مفاهيمية استقرّت لعقود. فإيران، عبر ردها، لا تناقش مع خصومها عدد الصواريخ ولا مدياتها، بل تناقش حقّها في صياغة مفهوم الردع من جديد. هي تُعلن، بصمت مدروس، أن امتلاك القدرة على الرد ليس حكراً على من نال الشرعية من القوى الكبرى، بل هو أيضاً حقّ لمن استطاع أن يفرض معادلة يحترمها الآخرون. وهنا، يتجاوز الفعل الإيراني حدود التكتيك العسكري إلى هدم ضمني لفكرة الردع كنادٍ مغلق لا يُمنح إلا للمصطفين في أعلى الهرم الجيوسياسي.

هذا التحول لا يعني فقط تعديل التمركز العسكري، بل تصحيح التموضع السياسي. إيران لم تعد تتحرك وفق قواعد غيرها، بل باتت تطرح أسئلتها الخاصة على الجميع: من يملك الحق في المبادرة؟ من يرسم الخط الأحمر؟ ومن يملك القدرة على إعادة رسمه؟

هنا تُستدعى لحظة باكستان كنموذج مفصلي

حين قررت أن تُعلن امتلاكها للسلاح النووي، لم تكن رسالتها موجهة إلى خصومها فحسب، بل إلى العالم بأسره: نحن لسنا موضوع تفاوض، بل رقم لا يمكن تجاوزه. إسرائيل تعلم أن تكرار هذا السيناريو مع طهران سيعني إعادة هيكلة الردع إقليمياً.

ما يُقلق القوى الكبرى ليس القنبلة، بل اللحظة التي تُصبح فيها جزءاً من مشهد معلن. فالخطر لا يكمن في المادة، بل في التوقيت السياسي للإفصاح. وكل يوم تصمت فيه إيران، يتسع مجال الاحتمال، وتزداد كلفة المواجهة معها.

الرسالة لم تكن في الضربة، بل في السلوك. لم يكن الهدف تحطيم مدينة، بل زعزعة معادلة امتياز الردع. إيران لم تأتِ لتُقاس على ميزان الغير، بل لتُعيد ضبط الإيقاع من أوله.

وعندما تُلوّح طهران بما لم تُظهره، فهي لا تبتز، بل تُفاوض من موقع الندّ. ليس الهدف إثبات الحيازة، بل فرض الكفاءة السيادية. وهنا لا يكون الردع سلاحاً مادياً فحسب، بل مفهوماً تُعاد كتابته بقلم جديد.

 

الوسوم: