محمد الكلابي
العيد، كما نعيشه اليوم، ليس لحظة شعورية، بل مطلب سلوكي جماعي.
إنه لا يسألنا عمّا نشعر، بل يفرض علينا ما يجب أن نظهر.
أنت مطالب بالابتسام، بالمجاملة، بالاحتفاء، حتى لو أن داخلك لا يعترف بوجود سبب لذلك. لا أحد يقولها صراحة، لكنك تفهمها فوراً: الفرح في هذا اليوم واجب، لا خيار.
المشكلة ليست في العيد، بل في التواطؤ العام على تمثيله، رغم أنه فقد حرارة وجوده منذ زمن.
كأن الجميع يدرك أن ما يُمارس لا يلامس الحقيقة، ومع ذلك يشارك، يبتسم، يلبّي الدعوة، يرسل التهاني، ويقف أمام الكاميرا بإتقان.
هنا تماماً، ندخل حقل الأداء الاجتماعي كما عرّفه علم الاجتماع: الفرد لا يعبّر عن نفسه، بل يُقدّم نسخة منها تليق بالجمهور.
في العيد، نحن لا نعيش الفرح، بل نُؤدّيه. نرتدي ملامح البهجة، نكرر كلمات المحبة، وننخرط في مشهد لا نملك حيال طقوسه سوى الطاعة.
إنه عرض يُعاد سنوياً بنفس النص والممثلين، لكن بإيمان أقل كل مرة.
والغريب أننا نعرف. نعرف أن كثيرين لا يشعرون بشيء، وأن الفرح صار تمثيلاً، وأن الصورة أصبحت أهم من اللحظة.
ومع ذلك، لا أحد يعطّل العرض. كأن الخوف من سقوط التمثيل أشد من خوائه. كأن الزيف، رغم انكشافه، أقرب إلينا من صدق لا يوحّدنا.
لكن لماذا نتمسك إذاً بعيد لا يسكننا؟ لماذا نمارسه رغم اغترابه؟
لأننا لا نحتفل بما هو عليه، بل بما كان عليه.
نحتفل لأن العيد، في اللاوعي الجمعي، مرتبط بزمن كانت الحياة فيه أبسط، والعلاقات أعمق، والمشاعر أصدق.
الطفل الذي كنّاه لا يزال يلوّح من بعيد. نكرّر الطقوس لا لنعيشها، بل لنستعيد من كنّا حين كنّا نؤمن بها.
ثم إن العيد، في عالم فقد طقوسه الجماعية، بقي الطقس الأخير الذي يؤدي دوره، حتى بلا روح.
سقطت شعائر الانتماء، تآكلت الرموز، وانفصل الأفراد عن الجماعة. لم يتبقَ سوى هذا اليوم، الذي نواصل تمثيله كلما حلّ، بوصفه آخر خيط لوحدتنا المفترضة.
وإن كان كاذباً، فهو كذب نتّفق عليه، نمارسه، ونخشى لحظة انكشافه.
لكن هذا التكرار الأجوف لا يصنع فرحاً، بل يخلق نوعاً جديداً من التخدير الجماعي.
العيد لم يعُد مناسبة للانفعال الصادق، بل صار جرعة رمزية لتهدئة داخل مضطرب.
نمارسه كما يمارس المريض علاجه: لا عن اقتناع، بل لأن التخلّي عنه يتركنا عراة أمام خوائنا.
نرتدي الفرح كدرع، لا كتعبير.
نحن لا نفرح في العيد. نحن نؤجّل الحزن.
نختبئ خلف الضجيج، نفرّغ الألم في المجاملات، ونعلّقه على شماعة “ليس الآن”. ثم نعود لأنفسنا بصمت لم نسمح له بالكلام.
وهنا نستعيد ما قاله نيتشه عن “الكذب النبيل”:
الكذبة التي نعرف حقيقتها، ونتمسك بها لأنها تمنح الحياة مظهراً مقبولاً.
المجتمعات لا تُبنى على الحقيقة الخالصة، بل على طقوس تُنظّم الفوضى، وتغطي هشاشة المعنى بملامح مألوفة.
والعيد هو إحدى هذه الطقوس: أداء ميتافيزيقي يذكّرنا أن هناك ما يمكن التمسك به، حتى لو كان تقليداً أجوف.
نحتاج العيد، لا كفرح، بل كرسالة تقول: “ما زلنا هنا، معًا، رغم تباعدنا.”
هو قناع الجماعة الأخير، مظهر الانتماء في عصر تحوّل فيه الفرد إلى جزيرة لا جسر لها.
لكن الكذبة، مهما كانت نبيلة، لا تدوم.
سيأتي عيد لا تُلتقط فيه صورة، ولا تُرسل فيه تهنئة، ولا يُؤدى فيه شيء.
عيد بلا زينة، بلا أدوار.
سنستيقظ على فراغٍ كان يتخفّى طوال الوقت.
وربما، حينها فقط، نرى العيد كجنازة مؤجلة لزمن كنا نصدّق فيه الحياة.
وربما نكتشف، متأخرين، أن العيد لم يكن مناسبة ننتظرها، بل كذبة ضرورية كي لا نعترف أننا، منذ زمن، لم نعد نعرف كيف نكون سعداء.