د.عمار الشهرستاني
مقدمة
تُعد المرجعية الدينية في النجف الأشرف واحدة من أهم المؤسسات الدينية والفكرية في العالمالإسلامي، لما تمثله من عمق علمي، واستقلالية فكرية، ودور اجتماعي وسياسي معتدل. وقد لعبتالمرجعية العليا، خلال العقود الماضية، دورًا محوريًا في العراق والعالم الاسلامي لاسيما منذ سقوطالنظام السابق عام 2003، حيث أضحت مرجعية النجف مرجعًا معنويًا ليس فقط للشيعة، بل لكثير منالعراقيين من مختلف الأطياف، ولعبت دورًا حاسمًا في توجيه البلاد خلال الأزمات الكبرى..
ومع التقدّم في السن للمرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله، بدأ الاهتمام والتساؤلاتتتزايد في الاوساط السياسية والاجتماعية حول مستقبل المرجعية، وطبيعة المرحلة المقبلة، وكيفيةالحفاظ على نهج النجف ومكانتها.
مدرسة النجف وخصوصية نهجها المرجعي
من أبرز سمات مرجعية النجف الاشرف ، منذ منتصف القرن العشرين، استقلالها عن الانتماءاتالسياسية الحزبية، وتركيزها على توجيه المجتمع والدولة من موقع معنوي وابوي، لا من موقع السلطةالمباشرة. وقد تجلّى هذا النهج بوضوح في أسلوب السيد السيستاني دام ظله، الذي حافظ على مسافةواضحة من الجميع، وفي الوقت نفسه كان له تدخل فاعل ومؤثر في اللحظات الحرجة على المستوىالاقليمي ، كما في فتوى الجهاد الكفائي، ومواقفه من الانتخابات العراقية، ومحاربة الفساد، والدعمالانساني في لبنان وغزة.
وهذه المنهجية صارت مألوفة للجميع، وصار الانفصال عنها أو مغادرتها فجأة أمرًا صعب التقبل، ليسفقط من قبل عامة المجتمع ، بل من حتى من قبل المؤسسات الدولية والحكومية.
تحدي الانتقال وضرورة الاستمرارية
التحدي الأكبر في المرجعية القادمة لا يكمن فقط في العثور على فقيه يمتلك درجة الاجتهاد، بل فيضمان استمرارية الخط المرجعي المعتدل والمنفتح الذي ميّز مرجعية السيد السيستاني، وضبطتوازنات النجف داخليًا وخارجيًا. فلا يمكن للمرجعية القادمة أن تبدأ من الصفر أو تقطع مع ما سبقها، بللا بد لها من أن تبني على ما تحقق من توازنات داخلية، وعلاقات إقليمية، وتجربة فريدة في قيادةالمجتمع من دون الدخول في لعبة السلطة.
خيارات المرجعية القادمة وأدوار محورية
كبار المراجع وتحديات التقدم في السن
لا يمكن الحديث عن مستقبل المرجعية الشيعية في النجف دون التوقير الكامل لما تبقى من الرعيلالأول من كبار المراجع، وفي مقدمتهم الشيخ إسحاق الفياض والشيخ بشير النجفي، وهما من العلماءالأعلام الذين تصدّوا بالفعل للمرجعية، ويتمتعون بمكانة علمية كبيرة داخل الحوزة وخارجها. وقد كانلهما دور مشهود في دعم المرجعية العليا وترك زمام الامور لما تراه الاصلح والتفاعل مع مواقفهاالعامة.
لكن مع التقدم في العمر، والقيود الصحية التي تفرض نفسها بمرور الزمن، يرى الكثير قد يُصبح منالصعب – واقعيًا الاشراف على مهام المرجعية العليا في المرحلة المقبلة، خصوصًا أن المرجعية تتطلباليوم حضورًا فاعلًا ومواكبةً دقيقة لما يجري في الداخل العراقي والمحيط الإقليمي والمكون الشيعي،وهو ما يجعل التفكير في مرشح من جيل أكثر شبابًا وخبرة تنفيذية ضرورة مرحلية وليست مفاضلةعلمية.
ومن المعروف أن في النجف الأشرف عددًا كبيرًا من الشخصيات العلمية والفقهية البارزة، الذينيمتلكون الكفاءة والاجتهاد والمؤهلات الشرعية التي تؤهلهم للتصدي، إذا ما رأوا ذلك ضمن تكليفهمالشرعي. والحوزة لم تخلُ يومًا من العلماء القادرين على حمل المسؤولية.
إلا أن المرجعية العليا لا تقوم فقط على الاجتهاد والكفاءة، بل على فهم دقيق لتاريخ النجف، والوضعالعام، والتوازنات الدقيقة التي أرساها السيد السيستاني لاكثر من عقدين. ومن هنا، فإن المنهجيةالخاصة التي رسمها السيد السيستاني في قيادة المرجعية، باتت تمثل نهجًا متكاملًا يصعب على الناسوالمؤسسات التكيف مع تغييره المفاجئ، وهو ما يستدعي البحث عن الامتداد الطبيعي لهذا النهج، أكثرمن مجرد البحث عن البديل العلمي.
ومع أهمية الجانب العلمي، يبرز عامل التجربة المباشرة في إدارة الشأن العام، كميزة فارقة في هذهالمرحلة. وهنا يبرز، ضمن هذا الإطار، دور مرجعية السيد السيستاني، الذي أثبت عبر السنوات أنه الأكثرخبرة ومعرفة بدقائق الواقع العراقي، والمؤسسات السياسية، والعلاقات الإقليمية والدولية، بفضلإشرافها العملي على إدارة المرجعية في أحلك الظروف.
مرجعية السيد السيستاني… تجربة وخبرة متراكمة
منذ عام 2003، تولت مرجعية السيد السيستاني، من خلال شخصياته المختلفة، الإشراف العملي علىالكثير من الملفات الانسانية والاجتماعية والسياسية ، وكان لذلك الدور الأثر الأكبر في حفظ توازناتالنجف، وتقويتها في علاقاتها مع االمجتمع. هذه التجربة، بكل أبعادها، لم تُصنع في يوم وليلة، بل هيثمرة تراكم طويل من الحضور الذكي والمتزن.
الاستمرارية كمصلحة عامة للمنهجية السيستانية
من المهم والمتوقع – وربما من الضروري عقلائيًا – أن يدير المرجع الاعلى القادم الملفات الحساسةوالمهمة سياسيا واجماعيا بنفس الاسلوب والمنهجية السيستانية وأن كان لدييه تكليفه الشرعي الخاصوكذلك من الممكن أيضا ان تُترك الملفات العامة في يد ممن هو اعرف بتلك المنهجية التي تعود عليهاالجميع وقد يكون من الصعب ان يتقبل منهجية اخرى. فقد أثبتت التجربة أن هذه المنهجيةالسيستانية تمتلك من الحكمة والخبرة ما يجعلها صمام امان للوضع العام ، بما يخدم المصلحة العامةوالخاصة ، ويمنع وقوع الفراغ أو الارتباك في تلك اللحظة الحساسة.
خاتمة
مرجعية النجف تمر بمرحلة دقيقة، تقتضي الحفاظ على النهج قبل الاسم، والخبرة قبل العنوان،والرصانة قبل الاندفاع. والاستمرار على طريق الاعتدال والانفتاح، الذي أسسه السيد السيستاني، لا يتم إلاعبر من عرف تفاصيل هذا الطريق، وشارك في بنائه. سواء جاء الامتداد من داخل بيت المرجعية أوخارجه، فإن الحاجة الأهم هي إلى قيادة تعرف العراق، وتُتقن مخاطبته، وتفهم مسؤوليتها أمام الأمة، لامجرد قيادة تستوفي الشروط التقليدية وهذا ما يتمناه وتعلم عليه الشارع الشيعي والعراقي لاكثر منعقدين من الزمن والذي يصعب تغييره