منصة ثقافية أدبية

صغيرتي والوطن / نهلة الدراجي


بتاريخ مايو 26, 2025 | في مقالات

المشاهدات : 22


      نهلة الدراجي

لم أكن أدري أن لحظة دافئة تجمعني بابنتي الصغيرة، على طاولةٍ تتناثر عليها كتب المدرسة واقلامها،ستتحوّل إلى لحظة انكسار صامت، تُسقطني من علياء الأمومة إلى قاع العجز، وتُعيدني، دون أن أشعر،إلى وجعي القديمذلك الوجع الذي حاولت دفنه خلف سنوات الغربة، ووراء صخب المطارات وحقائبالسفر.

عدتُ إلى العراق بعد أعوامٍ من الترحال، أملاً في أن أستعيد شيئاً من ملامح الوطن، من رائحة الخبز، مندفء اللهجة، من ضحكة الجيران، ومن ظلّ نخلةٍ كانت تسكن ذاكرة طفولتي. كنت أظنّ، أو بالأحرى كنتأُقنع نفسي، أن البلاد قد شُفيت من جراحها، أو على الأقل تعلمت كيف تخفي نزيفها عن أعين العائدين. لكنّ سؤال ابنتي البريء، الذي خرج من بين شفتيها كهمسةٍ، كان أشد وقعاً من كل ما خبرته في الغربة: بصوتها الطفولي الرقيق راحت تقرأ: «لكل مواطن الحق في العيش، والكرامة، والتعليم، والرعايةالصحية، والأمن…»

توقفت فجأة، رمقتني بنظرة ملؤها التساؤل، ثم سألتني:

– «ماما، إحنا هم عندنا هاي الحقوق؟»

تلعثمتُ……!

مرّ شريطٌ طويل من الذكريات والخذلان أمام عينيّ، تسارعت أنفاسي، وكأن السؤال لم يكن منها، بل منالعراق ذاته. خنقتني الكلمات، وارتجفت شفتي. كنت على وشك أن أقول لها الحقيقة، أن أخبرها عنسنوات القهر، عن الذين ماتوا في الطوابير، عن الذين حلموا ببيت فلم يجدوا سوى خيمة، عن أمهاتانتظرن أبناء لم يعودوا، وعن شوارع كانت تعرف الضحكة فغمرها الصمت والدم.

لكنها، بإصرار الأطفال وقدرتهم العجيبة على النفاذ إلى جوهر الأشياء، قالت لي: ” گوليلي حبيبتي ماما،الحقيقةاكو حقوق؟

صمتُّ. كأن العراق كله كان ينتظر جوابي. كأنني أمٌّ لهذا الوطن، وعليّ أن أشرح لطفلتي معنى أن تحب بلدًالا يمنحك ما تستحق. حاولت أن أُبسّط الحقيقة، أن أقول إن الحقوق ليست كلمات تحفظ، بل أفعالتُمارس. أن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع. لكنني تلعثمتلأنني خفت أن أزرع في قلبها اليأس.

ثم ابتسمت، قبّلتني، وقالت: ” ماما ليش ضجتي لا تقلقينأني راح أكبر، وأصير محامية، وأخلي كلالناس تاخذ حقوقها»

أغمضتُ عيني، وبكيت.

لم يكن بكائي ضعفًا، بل وجعًا متراكمًا، لمواطنة عاشت في الغربة، وعادت لتجد أن الغربة لم تغادرالوطن. وها أنا أكتب اليوم، لا لأشكو، بل لأُذكّر. بأننا لن نستعيد العراق إلا حين يستطيع كل طفل أن يسألعن حقوقهويجد الجواب في الواقع، لا في الكتب.

يا وطني، كم من جرح نحمله بصمت؟ وكم من سؤال يُطرَح علينا من أفواه أطفالنا فيفتح لنا بواباتالألم؟ لكننا، رغم كل شيء، نحبك. نحبك كما تحبك أمهات الشهداء، كما يحبك من لم يغادرك، ومنغادرك وعاد إليك محمّلًا بالشوق.

في تلك الليلة، بعد أن نامت ابنتي، بقيت أنظر إلى سقف الغرفة، وأفكر:

كم طفلاً في بلادي يسأل السؤال ذاته؟

وكم أماً مثلي، لا تجد الجواب؟

لكنني لن أتوقف عن الكتابة.

لأن الكلمة هي الوطن حين يضيع الوطن، ولأنني وعدت نفسي، ووعدت ابنتي، أن أكون صوتها حين يعجزالصوت.

وأن أكتب، حتى يتحقق الجواب..

نحن لا نطلب المستحيلنحن فقط نطلب أن يعود الوطن وطناً.

الوسوم: