نهلة الدراجي
أخجل من قلمي حين يغدو عاجزاً عن بث الحياة في ضحكة طفل سُرقت منه مبكراً. أكتب لا لأسردمأساة، بل لأصرخ نيابة عن تلك العيون التي أنهكتها الدموع، وعن تلك الأيادي الصغيرة التي شبّت علىالشقاء بدل اللهو.
الطفل العراقي لا يشبه الأطفال في بقية العالم. ليس لأن فيه اختلافاً فطرياً، بل لأن الحياة اختارت أنتلقي عليه أثقل ما فيها من وجع. حرمان مزمن، عنف متكرر، عمالة قسرية، تسوّل في الشوارع، وضياعبين مؤسسات لا تملك إلا الوعود.
في بلد أنجب حضارات، وعلّم البشرية أولى الحروف، يقف الطفل العراقي على حافة النسيان. فالحروبوالنزاعات والصراعات التي لا تعرف هدنة ولاتنتهي، خلّفت وراءها جيلاً من الأيتام الذين لا سند لهم ولاصوت. آلاف الأطفال فقدوا أحد الأبوين أو كليهما، بعضهم في الحروب، وبعضهم في التفجيرات، بينماخُطف آخرون من طفولتهم على يد التفكك الأسري، وتزايد حالات الطلاق، والفقر المتفاقم.
المدارس التي كانت يوماً حاضنة لبدايات الحلم، باتت اليوم عاجزة عن احتواء أبسط مقومات التعليم. المستشفيات تئن تحت وطأة الإهمال، فيما تفتقر برامج الحماية الاجتماعية إلى الدعم الكافي، تاركةًالأطفال في مهب العوز والتشرد……!!
عمالة الأطفال، التي تُعدّ وصمة في جبين المجتمعات، أصبحت في العراق من المشاهد اليوميةالمألوفة. أطفال بأجساد نحيلة يجرّون عربات، يبيعون المناديل، ينظّفون الزجاج في إشارات المرور، بينماأعينهم تبحث عن شيء من الكرامة بين أنقاض الحياة.
الواقع المأساوي لا يُختصر بكلمات، لكنه يبدأ من الاعتراف بأن الطفولة في العراق تُسرق كل يوم، فيوضح النهار، على مرأى من الجميع، وبصمت مريب من المعنيين. إنها ليست فقط أزمة إنسانية، بل كارثةمجتمعية تهدد مستقبل البلاد.
الطفل العراقي لا يحتاج إلى الشفقة، بل إلى دولة تحتضنه، قانون يحميه، ومجتمع يعيد إليه حقه فيالحياة والفرح والحلم. يحتاج إلى مدرسة لا يُهمل فيها، وإلى بيت آمن. يحتاج إلى ذاكرة لا تُثقلها اصواتالنزاعات والصراعات، بل تُزهر فيها قصص الطفولة كما في بقية العالم.
في كل مرة أعود فيها بقلمي إلى هذا الجرح المفتوح، أشعر أن الكلمات تخونني، وأن الحبر لا يكفي لرسمحجم المأساة. لكنني، أؤمن أن واجبنا لا ينتهي عند التوثيق، بل يبدأ من الصراخ عالياً: أنقذوا الطفولةالعراقية. فالأوطان لا تُبنى على أنقاض الأطفال، بل على ضحكاتهم، على مدارسهم، على براءتهم.
لأنهم لم يختاروا هذا المصير.