العراق والعرب وأشياء أخرى
نعمه العبادي
ينقسم المشهد الشعبي والنخبوي حيال ما يجري في العراق والمنطقة، ففي الوقت الذي يجتهد العراقلإقامة قمة عربية، ويبذل كل ما بوسعه، ان تكون مقبولة من حيث الشكل بغض النظر عن المضمون،وفي مقدمة أولوياته مستوى سقف الحضور، ينشغل الخليج والمقربون منه، بزيارة ترامب للمنطقة،وهم في وادٍ آخر تماما، إذ يتسابقون في إظهار الرضى الترامبي عنهم، ويستجلبون كلمات الاطراء والمدح(التي تساوي في نظرهم شرعية النظام)، من خلال البذل السخي والاندكاك الكلي في المشروع الترامبي،وأزاء هذا المشهد، يذهب طيف غير قليل (شعبي ونخبوي) إلى الاعجاب والثناء على السلوك الخليجيبوصفه إدارة ناجحة للعلاقات الدولية المؤثرة، وفهم عملي وواقعي للظروف والمتغيرات والتحديات،فيما يصف طرف آخر هذا السلوك بالتخاذل او الانبطاح او الارتهان…. الخ، وما بين هذين الموقفين،ترتسم خارطة اخرى من المواقف ووجهات النظر.
يمتد هذا الجدل في كل مناسبة مشابهة الى تقييم العلاقات العراقية العربية وغيرها، وتختلف وجهاتالنظر حول ضعف او فشل او محدودية هذه العلاقات، رغم مبادرات العراق السخية.
يعيد العراقيون سؤالا موجوعا في مضمونه ومنطوقه: ” لماذا يكرهنا العرب والكثير من دول العالم، رغممواقفنا وسخائنا مع الآخرين، وانعدام خطرنا عليهم؟“، وفي كل مرة، يبلعون مرارة الاجابة، دون، انيتقدموا خطوة الى الامام في التعاطي مع الامور بشكل واقعي وعملي.
يتجاوز هذا المقال، لحظة الحيرة والانكسار والغضب التي تخلقه منعكسات هذا السؤال والاجوبةالمتعددة له، الى تسمية الامور بلغة واضحة وصريحة.
يدرك الخليجيون ومقربوهم، ان العلاقة مع امريكا/ترامب، ليست قائمة على اساس الندية والاحترامالمتبادل، والمكاسب المتعادلة، فهم عارفون بضريبة هذه العلاقة ولوازمها، وهي بلغة مختصرةوواضحة: (إحتماء أمني وعسكري من خطر ينظرون إليه بوصفه مهددا وجوديا يتمثل بإيران، وضمانللبقاء في السلطة رغم كل الملاحظات على شرعيتهم من خلال الدعم الامريكي للاجراءات والتدابير التيتتخذها تلك الانظمة لحماية نفسها والبقاء في عروشها، وبراغماتية ذكية لإستجلاب منافع على مستوىالامن والرفاهية مقابل تجنب الصراعات والحروب بغص النظر عن شرعيتها بشكل يخلق حالة من الرضىالشعبي النسبي)، وعلى هذه المتطلبات يدور فلك ومسارات علاقات هذه الدول، وعلينا ان نقرأ مسافتهممنا على هذه الاساس.
ان مقولة ” الحضن العربي” عبارة سخيفة لفظا ومضمونا، وهي احد أوهام الرومانسية او بالاحرىالدجل القومي، الذي استنزف الاقتصاد وحرق البلاد واهلك العباد، فلا أمة عربية (قديما وحديثا)، ومنيسافر الى البلاد العربية، يرى ذلك بوضوح وصراحة وبتعبير المثل العراقي ” الما يشوف بالمنخل عمىاللي عماه“، وعمر هذا الحضن ما كان دافئا ولا حنونا، بل منافقا ومخادعا، وربويا ومبتزا، ونفعيا بطريقةمخجلة، ومن يجد في سجل هذا الحضن على مدى مائة سنة مبادرة او سلوك عربي واحد تجاه العراق(الدولة والشعب) خارج تلك الاوصاف، فليأتني به، فقد صفق معظم العرب لعراق البعثيين وصدام، لأنهعراق يقاتل إيران نيابة عنهم، ولأنه عراق يبذل على الآخرين بسخاء ويحرم أبناء شعبه ويقتلهم، لذلكينبغي ان يتم تكريس مفهوم ” الامة العراقية” والعراق البلد، بعيدا عن كل الشعارات الخداعة والكاذبة،وان يتم التعامل مع كل دولة مهما كان وصفها وقربها على أساس مصالح واضحة ومتوازنة، ويدخل فيقلب هذا الاشتراط، ما تحمله العراق من ضرائب باهضة في دعم قضايا وتحمل وزرها، دون ان يكون لهفيها ناقة او جمل، بل ورغم كل جهده وعطائه، فإن المردود كان المزيد من القتل لشعبه والدمار لبلده،جراء المفخخات والانتحاريين، والمعنى واضح وصريح، لا يحتاج مزيدا من الشرح.
ان تحقيق مكانة مؤثرة في المشهد الدولي، لا يأتي من خلال الامنيات، ولا من تعدد الزيارات، ولا منالمجاملات والكلمات المعسولة، بل من الاتجاه للعالم بدولة قوية متماسكة، ونظام له شرعيتهومقبوليته، ودعم مجتمعي، يصطف خلف هذا النظام، وهي المتطلبات التي فشل في تحقيقها النظامالسياسي خلال العقود المنصرمة، وإذا كان من علاقة هنا او علاقة هناك، فهي ليست محكومة بالموازينالحقيقية للعلاقات المستقرة والمؤثرة، وان نقطة الانطلاق الحقيقية، ينبغي ان تبدأ من تعريف ذاتنابشكل شجاع وصريح، ثم العمل على الداخل بشكل جدي وفعال، وان يتم الاعتراف والمصارحة بالاخطاء،ويعاد النظر كليا في منهج ادارة الدولة والثروات والممارسة السياسية، وتنظيم مصادر القوة الصلبةوالناعمة للبلد.
ان الدول تشابه الاشخاص الى حد بعيد، وعلاقاتها تتشابه كذلك، فمن يلتزم بالمبدئية ويرعى الاخلاقويقف المواقف الاخلاقية، يتحمل ضريبة هذه المواقف وتداعياتها، فنحن في عالم بلا اخلاق ولا قيم ولاضمير ولا رحمة، يدار من خلال القوة والقوة لا غيرها، لذلك لا ينتظر احد من هذا العالم، ان يثني احد اويكافئ سلوك اخلاقي او مبدئي، بل علينا ان ننتظر العداء والمخاطر جراء هذا السلوك الاخلاقي والمبدئي.
التطبيع كلمة باهتة لا تعبر عن حقيقة المشهد في منطقتنا، فالدقيق هو القبول والتراضي على نفوذوحاكمية اسرائيل بالحدود التي تروق لها، في المنطقة، وهذه الاتفاقات التي تجري، لا تتحدث عن القبولوالرضى النفسي، او خدعة عداء السامية، بل هي اقرار ضمني، ان اسرائيل صاحبة اليد الطولى فيالمنطقة، وقد أقرت جميع الدول الخليجية وطيف غير قليل من العرب، بذلك فعلا قبل ان يكون ذلكقولا، ولذلك على العراق ساسة وشعبا، ان يفهموا هذا الواقع بوضوح، ويقدروا المخاطر على وفقه.
ان امريكا/ ترامب، لن تصنف العراق حليفا حقيقيا، ولو اعلن العراق الاعتراف بإسرائيل وأعاد اليهودللعراق وحل الحشد الشعبي وسجن الفصائل، فهو يعرف جيدا العمق الفكري والديني والنفسي للعراقوالعراقيين، كما انه يتصرف من منظور مسافات مبنية على اساس سردية امريكية خاصة، لذلك لا داعيللتهالك على هذا المستوى من العلاقة، بل السعي لإقامة علاقة مقبولة ومنصفة نسبيا للعراق مع تحملبعض الضرائب والتداعيات، كما ان هذا، لن يدفع روسيا والصين، ان تتخذ من العراق حليفا استراتيجيا.
اخيرا، هذه الدنيا عالم نواقص، فلا تكتمل نعمه إلا وكانت محفوفة بمنغص معين، وقدر نعمة هذاالعراق، ان يكون محفوفا بالمنغصات وفي مقدمتها كره الآخرين له.