فاروق الرماحي
حين تهاوت جدران الديكتاتورية في العراق عام 2003، تنفس العراقيون الصعداء، وكأنهم خرجوا تواً منزنزانة التاريخ المغلقة.
وُعدوا بدولة تحترم مواطنيها، وبنظام ديمقراطي يفسح المجال أمام الجميع للتعبير عن الرأي.
لكن سرعان ما اكتشفوا أن الحرية، حين تُفلت من عقالها، تتحول من نعمة إلى فوضى، ومن وسيلة لبناءالوطن إلى أداة لتقويضه.
في الفضاء الإعلامي العراقي، ظهرت محطات ومواقع ومنصات لا يمكن وصفها إلا بـ”دكاكين سياسية”،تديرها جهات لا تؤمن بالتغيير الذي حصل، بل تحنّ إلى ماضٍ استبدادي مظلم، وتعمل بجهد دؤوبلإعادة عقارب الساعة إلى الوراء .
هذه المنصات، التي تدّعي المهنية والموضوعية، ليست سوى أبواق دعائية لجهات حزبية وطائفية،تتغذى على إثارة الفتن وتضليل الرأي العام، وتستغل هامش الحرية للإساءة إلى الأغلبية، والتشكيكبشرعية العملية السياسية .
باسم “حرية الإعلام”، تستضيف هذه المنابر شخصيات مثيرة للجدل، أغلبها من المحسوبين على النظامالبائد، أو من الفاسدين المتنكرين بأقنعة المعارضة. تُعاد رواية الماضي الدموي، وتُمنح الميكروفوناتلأصوات مأزومة، تنفث خطاب الكراهية، وتُحرض صراحة على رموز الدولة، بل وحتى على وحدة النسيجالاجتماعي.
هنا، يتوجب علينا أن نسأل: هل حرية التعبير تعني حرية التدمير؟ هل من حق أي منصة أن تزعزع الأمنوالاستقرار تحت لافتة النقد؟ إن ما يجري في بعض الزوايا الإعلامية اليوم، ليس ممارسة ديمقراطية، بلعبث سياسي خطير، يهدد أسس الدولة، ويغذي خطاب الانقسام .
المفارقة المؤلمة أن هذه الأصوات، التي تهاجم المحاصصة والفساد ليل نهار، هي نفسها من تطالببحصص طائفية، وتدافع عن فاسدين تورطوا في نهب المال العام وسرقة أحلام الناس. شعاراتهم براقة،لكن نياتهم ملوثة حتى النخاع .
لذلك، لا يمكن للعراق أن ينهض دون إعادة النظر في شكل ووظيفة الفضاء الإعلامي .
نحن بحاجة إلى ميثاق شرف إعلامي وطني، لا يقمع الرأي، لكنه يضع حدوداً واضحة بين النقد والتخريب،بين المعارضة والبغضاء، بين حرية التعبير وحرية التدمير.
فالإعلام، حين يتحول إلى سلاح بيد القوى الطائفية والفوضوية، لا يبني وعياً ولا يؤسس لوطن، بل يفتحأبواب الجحيم مجدداً…
والعراق، الذي أنهكته الحروب والانقسامات، لا يحتمل مزيداً من العبث.