أخبار محلية و عالمية

اختبار إنساني. فلاح الكلابي


بتاريخ مايو 3, 2025 | في اراء حرة

في بلادٍ تتكاثر فيها وجوه الغلظة، ويضيق فيها صدر المؤسسات بالمواطن، تصبح المعاملة الطيبة حدثًا استثنائيًا، لا مجرد واجب. كأن الرحمة أصبحت رفاهية، والاحترام أصبح خيارًا، والرتبة أصبحت حائطًا يفصل بين الإنسان ومنصبه. وسط هذا الواقع، تصادفك أحيانًا لحظة بسيطة، لكنها تحمل في داخلها صرخة كبيرة تقول: ما زال هناك أمل.

كنت جالسًا في استعلامات مركز السلام في النجف الأشرف، أمام غرفة المدير مباشرة، أنتظر مراجعتي كأي مواطن عادي. الجو العام معتاد: حذر، انتظار، وملامح متوترة اعتدنا رؤيتها في مداخل الدوائر الأمنية.
إلى أن دخلت فتاة صغيرة، لا يتجاوز عمرها الرابعة عشرة، تمشي إلى جانب والدها بخجل ظاهر. ملامحها وملابسها المتواضعة تحدثت بصمت عن فقرها. كانت ترتدي ما لا يقيها لا بردًا ولا طريقًا، ووالدها يرافقها كمن يخشى على ابنته من نظرة قاسية أو كلمة جارحة.

في تلك اللحظة، خرج مدير المركز “العقيد اركان قحطان محمد” من مكتبه. لم يكن مستفَزًا، ولا مستعرضًا، ولا متبرّمًا من وجود “مراجعين مزعجين” كما يفعل كثيرون. اقترب منها، تحدث معها بهدوء، ثم أدخلها مكتبه بنفسه. لم يسمح لأي أحد بالاحتكاك بها أو التحدث معها. تولى كل شيء بيده، رافقها في كل خطوة، انتقل معها بين الضباط والمراتب، ظلّ معها حتى انتهى الأمر وكأنها ابنته لا مجرد مراجعة.

ذلك المشهد البسيط – في وقت نادرًا ما تُعامل فيه كإنسان بمجرد دخولك باب مؤسسة رسمية – جعلني أعود بذاكرتي إلى الوراء.
كم مرة دخلنا دائرة حكومية وخرجنا منها محطمين، لا لأن معاملتنا تعطلت، بل لأن كرامتنا تعثرت؟
كم مرة خاطبنا موظف أو ضابط بنبرةٍ فوقية وكأننا أعداء؟
كم مرة شعرنا أن المراكز الأمنية لم تُنشأ لحمايتنا، بل لتذكيرنا بأننا ضعفاء؟
كم مرة شعرت أن الأرض التي خُلقت منها ليست صالحة للوقوف أمام باب مسؤول؟

وحين ترى نقيض ذلك، ترى إنسانًا في موقع سلطة، يختار أن يُعاملك كندّ لا كأدنى، تشعر بصدمة… لكنها صدمة جميلة، تنعشك من الداخل. كأنك تكتشف أن النُبل لا يزال حيًّا، وأن الوطن ما زال ممكنًا.

هنا لم تكن “الرتبة” قطعةً على الكتف، بل ضميرًا في القلب. لم تكن السلطة وسيلةً للهيمنة، بل فرصةً لإثبات الإنسانية.
وفي اللحظة التي اختار فيها هذا الضابط أن لا يحتمي بمنصبه، بل أن يكون وجهًا شفافًا له، أصبح بنظرنا أكبر من كل رتبة.

ولو أننا نريد إصلاح صورة المؤسسة الأمنية، فالبداية ليست في كتيب إرشادات أو حملة علاقات عامة، بل في تكريم النماذج الشريفة ورفعها إلى موقع القدوة. تمامًا كما نطالب بإقصاء من يسيء للناس، نطالب بإعلاء من يُنصفهم. لأن هؤلاء هم من يستحقون أن يتصدّروا المشهد.

هذا الضابط لم يكن يدافع عن سمعته، بل عن كرامة فتاة لا تملك إلا خجلها. لم يُظهر سلطته، بل استخدم سلطته لحمايتها. وهذا أعظم ما يمكن أن يصنعه صاحب منصب: أن يتصرف كما لو أن الرتبة لا تمنحه القوة… بل تُلزمه بالرحمة.

هناك من يُخيفك برتبته، وهناك من يُؤمّنك بإنسانيته. فمن الأجدر بالقيادة؟

الوسوم: