أخبار محلية و عالمية

حين يتنازع القلب والعقل رؤية في صراع الإدراك والدافعية. اللواء الدكتور  سعد معن الموسوي  رئيس خلية الاعلام الامني


بتاريخ مايو 2, 2025 | في اراء حرة

منذ أن فكر الإنسان في نفسه بدأ يسأل عن مصدر قراراته هل هو العقل أم الرغبة

وقد كان أرسطو من أوائل من قسم النفس البشرية إلى شطرين

الأول عقلاني مقيم في الرأس يسعى للمعرفة والحكمة

والثاني شهواني مقيم في القلب يرتبط بالحاجة والدافعية

لم يكن هذا مجرد تقسيم تشريحي بل هو وصف لبنية داخلية لا تزال تحكم سلوك الإنسان حتى هذه اللحظة

 

وقد حاولت المدارس الفلسفية والنفسية منذ ذلك الزمن وحتى يومنا هذا أن تفسر هذا التنازع بين الرأس الذي يريد أن يعرف والمشاعر التي تريد أن ترتاح

وفي القرن العشرين بدأ علم النفس الاجتماعي يطرح السؤال نفسه بصيغة جديدة

 

هل نحن نعرف أولا ثم نتحرك بناء على ما عرفناه ؟

 

أم أننا نرغب أولا ثم نبحث عما يؤكد هذه الرغبة ؟

 

 

الدراسات التي ظهرت منذ السبعينات الميلادية كانت تميل إلى أن الدافعية تتقدم في التأثير على السلوك قبل المعرفة

ومن أبرز المفاهيم التي تدعم هذا الاتجاه مفهوم (التفكير الرغبي)

وهو أن الإنسان لا يستخدم العقل بحثا عن الحقيقة بل يستخدمه لتبرير ما يرغب فيه

فيصبح العقل خادما للدافعية لا موجها لها

 

وفي هذا السياق ظهرت نظرية التشوهات المعرفية والتي تقول إن الإنسان لا يرى الواقع كما هو

بل يرى واقعا مشوها يتفق مع ميوله المسبقة

وهذا التشويه ليس نتيجة ضعف في الفهم بل هو وسيلة دفاعية داخلية تحمي توازن النفس

فالذي يبرر موقفه يشعر بالراحة

والذي يعترف بخطئه يواجه اضطرابا داخليا لا يحتمله

 

لقد طرح الدكتور علي الوردي هذا المعنى بطريقة أخرى حين تحدث عن التناقض في شخصية الإنسان الشرقي

الذي يعيش بين قيم مثالية يتبناها وسلوكيات واقعية لا تنسجم معها

ووصف الوردي الإنسان بأنه مزدوج في تكوينه

يحمل في داخله حضارة ظاهرية وبداوة باطنية

ويحاول باستمرار أن يغطي الفجوة بينهما بالتبرير

 

ما توصلت إليه من خلال عملي البحثي أن هذا التبرير ليس حالة طارئة بل هو منظومة قائمة بذاتها

أسميها ((منظومة الإدراك الدفاعي))

وهي التي تجعل الإنسان يختار ما يصدق

ويقبل ما يتماشى مع دوافعه

ويرفض كل ما يهدد صورة ذاته التي بناها على مدى سنوات

 

حيث أظهرت بعض الدراسات أن الإنسان حين يتعرض لموقف أخلاقي لا يتخذ قراره بناء على المعرفة

بل على مدى التزامه بقيم داخلية تهذب رغباته

فالمعرفة وحدها لا تردع إن لم تكن مدفوعة بتزكية داخلية

وهذا يقودنا إلى قناعة مفادها أن نضج الإنسان لا يقاس بكمية ما يعرفه

بل بقدرته على ضبط دوافعه

وتسخير إدراكه في خدمة قيمه لا رغباته

 

إن الانقسام بين العقل والقلب سيبقى قائما ما دام الإنسان يعيش

لكن الفرق بين الناضج وعدمه

 

أن الأول يدير هذا الانقسام

والثاني يخضع له دون وعي

ولا يمكن للمجتمعات أن تتقدم ما لم يتحول العقل من أداة تبرير إلى أداة مراجعة

وما لم تتحول الدافعية من محرك فوضوي إلى دافع منضبط بقيمة عليا

 

من هنا تأتي أهمية بناء الوعي الداخلي الذي يحمي النفس من تزييف الحقيقة

ويزرع في داخل الإنسان رقابة ذاتية تعصمه من الإفراط في التبرير

وهذا الوعي لا يُمنح من الخارج بل يُبنى من الداخل عبر مسار طويل من التربية والمجاهدة

الوسوم: