الديكتاتور الرقمي

الديكتاتور الرقمي

محمد الكلابي

في عصرنا الرقمي، تصبح السلطة أكثر تشويشًا وأكثر صعوبة في الفهم. لم نعد نعيش في عالم يحكمه الأمراء أو الملوك الذين يمتلكو السلطة الظاهرة على جيوشهم وأراضيهم. لا، اليوم أصبح من يملك البيانات هو من يملك العالم. فما الذي يجعل هذا العصر أكثر إثارة؟ الحقيقة أن الميكافيلية التي كانت تُمارس من قبل الحكام في العصور الوسطى لم تختفِ. بل، تحولت إلى أداة أكثر دهاءً، وأخفى، وأكثر تأثيرًا من أي وقت مضى. إنها الميكافيلية الرقمية، التي تُمارس بطرق لم نكن لنتخيلها من قبل.

في كتابه “الأمير”، كتب ميكافيلي عن ضرورة أن يكون الحاكم مستعدًا لاستخدام أي وسيلة لحماية سلطته، مهما كانت غير أخلاقية. كانت القوة تأتي من القدرة على التحايل، التلاعب، التهديد، وحتى الخيانة إذا لزم الأمر. في ذلك الزمن، كان الحاكم يفرض سلطته عبر القوة العسكرية، كان يُسيطر على البشر بالقوة المادية. أما اليوم، في عصرنا الرقمي، أصبحت السلطة تُمارس عبر وسائل غير مرئية، أكثر تسللًا وأكثر تشويشًا. إنه تحوّل مذهل: من الميكافيلية العلنية إلى الميكافيلية الرقمية.

هل يمكننا تصور أن اليوم، لا أحد يحمل سيفًا أو درعًا ليحكم؟ القوة اليوم تتنقل عبر البيانات و الخوارزميات. تحولت المعلومات إلى السلطة الأكبر. الشركات الكبرى مثل فيسبوك و غوغل، والمؤثرين الرقميين الذين يمتلكون ملايين المتابعين، أصبحوا القوة الحقيقية في هذا العصر. هم يتحكمون في المعلومات التي تصل إلينا، ويشكلون الرأي العام، بل وحتى يوجهون قراراتنا في أحيان كثيرة.

ما يحدث هنا هو أن الميكافيلية قد تطورت. لم يعد هناك أمير واحد يُظهر سلطته بالدماء أو العنف. اليوم، المؤثرون و الشبكات الاجتماعية هم من يملكون القوة الفعلية. وليس الأمر فقط يتعلق بما نشتريه أو نستهلكه، بل كيف نفكر، ماذا نرى، كيف نعيش. اليوم، الخوارزميات تحدد لنا ماذا نقرأ، وأي الأخبار نتفاعل معها، وأي القضايا نؤيدها. نحن، في جوهرنا، أصبحنا جزءًا من العملية الميكافيليّة الكبرى التي لا نراها حتى.

الميكافيلية الرقمية ليست مجرد لعبة سياسية أو استراتيجية لفرض السلطة. إنها إعادة تشكيل الواقع عبر أدوات جديدة: البيانات و التكنولوجيا. إنها قدرة على التلاعب بالعقول البشرية باستخدام أساليب حديثة تُخفي نفسها في ظلال البرمجيات والأنظمة الرقمية. في الحقيقة، أصبحنا، كأفراد، منتجات تُصنع عبر خوارزميات معقدة تُحركنا دون أن نلاحظ. عندما نضغط على زر الإعجاب، أو نشارك منشورًا، نحن جزء من الشبكة الميكافيليّة التي تقودنا إلى اتخاذ قرارات معينة.

هل يمكننا التوقف هنا وطرح سؤال مهم: هل نحن أحرار فعلًا؟ أم أن الخوارزميات التي تحكمنا هي التي تحدد خياراتنا؟ هل نحن نعيش في عصر أكثر حرية، أم أننا في سجن رقمي لا نراه؟

لقد أظهرنا بالفعل كيف أن هذه السلطة الجديدة غير مرئية ولكنها مؤثرة، لكن السؤال الذي يجب أن يُطرح الآن هو: كيف نعيد تعريف السلطة في هذا العصر الرقمي؟ إذا كانت الخوارزميات تتحكم في أنماط حياتنا، كيف يمكننا استعادة السلطة بأنفسنا؟ وكيف يمكننا أن نعيد التفكير في كيفية ممارسة الميكافيلية، ليس ضدنا بل لصالحنا؟

إن هذه الميكافيلية الرقمية هي أكثر من مجرد أداة للسيطرة. إنها طريقة جديدة لهيمنة، حيث تُصمم الأنظمة الرقمية لتظل خلف الستار، تجعلنا نعيش في وهم من “الاختيارات” بينما تُوجهنا بشكل خفي نحو النتيجة المقررة مسبقًا. لكن ما هو البديل؟ هل نحن مستعدون لاستخدام هذه الأنظمة ضد نفسها؟ هل نحن مستعدون لإعادة تشكيل هذه السلطة بحيث تكون في خدمتنا، لا في خدمة الذين يتحكمون بها؟

في عصرنا الرقمي، حيث السلطة لا تُمارس من خلال الجيوش أو القسوة الظاهرة، بل من خلال الخوارزميات التي تحكم عقولنا، يجب أن نواجه الحقيقة المروعة: نحن جميعًا جزء من لعبة ميكافيليّة أكبر بكثير منّا. لكن إذا كان التاريخ قد علمنا شيئًا، فهو أن السلطة لا تبقى في يد واحدة للأبد. اليوم، الميكافيلية لم تعد سيفًا مرفوعًا في وجهنا. إنها الخوارزمية التي تحكم عقولنا، والتي يمكن أن نكسرها إذا قررنا.

4 thoughts on “الديكتاتور الرقمي

  1. Undeniably believe that which you stated. Your favorite reason appeared to be on the web the easiest thing to be aware of. I say to you, I certainly get irked while people consider worries that they plainly do not know about. You managed to hit the nail upon the top as well as defined out the whole thing without having side-effects , people could take a signal. Will likely be back to get more. Thanks

اترك رداً على Arnulfo Fogelson إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *