منصة ثقافية أدبية

*العبادي… طوق نجاة محتمل* / المحامي علي الطائي


بتاريخ ديسمبر 22, 2025 | في اراء حرة

المشاهدات : 8


 

*المحامي* *علي الطائي*

قبل الخوض في هذا المقال، أجد من الضروري توضيح موقفي, إذ كنت وما زلت من المعارضين لإسناد رئاسة مجلس الوزراء إلى شخصية مجرَّبة أُنهكت في الحكم، أو إلى مستقلٍّ لم يُمسك مسبقًا بموقع تنفيذي فعلي.
كما كنت من الداعين إلى التظاهر خلال حكومة الدكتور حيدر العبادي.
غير أنّ الإنصاف، واستثنائية اللحظة الراهنة، يدفعانني اليوم إلى كتابة ما أراه الخيار الأقل كلفة، والأكثر واقعية، في ظرف سياسي بالغ التعقيد، تحكمه فوضى ممتدة وضعت البلاد في وضع حرج للغاية.

منذ تشرين الأول 2019، وما أعقبها من تحولات وهزّات وارتدادات سياسية لا تزال آثارها ماثلة، شهد العراق مسارًا متقلبًا ، أُقرّ قانون جديد للانتخابات، وشُكّلت مفوضية وُصفت بالنزاهة، ثم ما لبثت القوى السياسية أن أعادت تفصيل القانون وفق مقاسات ضيقة، لا يستفيد منها سوى قلة.
تلت ذلك وبعد سنوات انتخابات أُجريت الشهر الماضي، جاءت نتائجها صادمة في كثير من تفاصيلها، للخصوم قبل الحلفاء.
ولسنا هنا بصدد مناقشة تلك النتائج، بقدر ما نلحظ استمرار ساحات التظاهر والاحتجاج، بنبرات يغلب عليها طابع التحدي، ولا سيما في الجانبين المالي والسياسي.

كل ذلك يجري في ظل حكومة تصريف أعمال شبه مشلولة، وعجز واضح لدى القوى الفاعلة عن الاتفاق على بديل متوافق عليه أو على شكل التحالفات المقبلة.
أما التحديات، فلا تزال متعددة: بؤر إرهابية كامنة، أحداث أمنية كقصف حقل كورمور، مخاوف عالمية من موجة جديدة لجائحة كورونا أو متحوّر آخر، وحديث متصاعد عن تغييرات جيوسياسية و«شرق أوسط جديد»، فضلًا عن ضغوط داخلية وخارجية، كان آخرها الميل الأمريكي إلى التدخل العلني في مسار تشكيل الحكومة، والدعوة إلى حلّ ونزع سلاح بعض الفصائل.
ولا يكاد يُرى في المشهد ما يمكن عده منجزًا إيجابيًا، باستثناء قدر نسبي من الاستقرار في بعض المحاور، يقابله قلق متزايد من احتمال انخفاض أسعار النفط، المصدر شبه الوحيد للأمن الغذائي العراقي.

فلماذا العبادي؟

غالبًا ما يُختزل الانتصار على تنظيم داعش في بُعدِه العسكري، مع إغفال البعد القيادي والسياسي الذي مكّن من جمع قوى متناقضة ومختلفة في جهد مشترك.
فقد استطاع الدكتور العبادي حشد أكثر من ستين دولة، عسكريًا وأمنيًا وإعلاميًا وثقافيًا، لمواجهة تنظيم حظي في بداياته بتعاطف بعض الحواضن المحلية، وبتأثير خطاب طائفي مقيت داخل جزء من الأمة الإسلامية.

نجح العبادي في إدارة توازن بالغ الصعوبة على الأرض: جيش منكسر، وحشد متنوع من متطوعين وفصائل، وخبراء ومستشارين من دول صديقة وجارة، إلى جانب غطاء جوي تقوده دول غربية على رأسها الولايات المتحدة.
ولم يكن تحرك أي طيران، صديقًا كان أم غير ذلك، ليتم دون أمر وموافقة القائد العام للقوات المسلحة.
كما لا يُخفى حجم المحاولات التي بُذلت لإفشال أو تأخير خطط تحرير تكريت والفلوجة والموصل وغيرها، بدوافع سياسية ضيقة، قابلها العبادي بصبر وهدوء وعمق في إدارة المعارك، بينما سارع آخرون إلى التقاط الصور ومحاولة سرقة النصر أو تجييره لغير العراقيين.

أعاد العبادي الهيبة للمؤسستين العسكرية والأمنية بعد انكسارات مؤلمة، كسبايكر وأبي غريب.
وكان يمثل مشروع رجل دولة، إلا أن إعلامًا غير منصف خذله، وسعى إلى كسره من يفترض أنهم الأقرب إليه، في وقت كان منشغلًا فيه بمعركتين لا تقل إحداهما ضراوة عن الأخرى: حرب داعش، وحرب الانهيار المالي الناتج عن انهيار أسعار النفط.

تسلّم العبادي خزينة شبه خاوية، وسلّم من بعده أكثر من سبعة عشر مليار دولار تحت تصرف الحكومة اللاحقة.
ونال ثقة المجتمع الدولي والمؤسسات المالية العالمية، التي بدأت تنظر إلى العراق بوصفه شريكًا موثوقًا.
وفي مؤتمر الكويت لإعادة الإعمار عام 2018، قُدّمت وعود تفوق خمسة وثلاثين مليار دولار، على أمل تجديد الثقة بالعبادي وفريقه للشروع بإعادة البناء.
ويكفي التذكير بتصريحات وزير المالية آنذاك، حول عدم توفر رواتب الموظفين، والتي لم يشعر المواطن بأثرها، رغم خطورتها، لما كان عليه الوضع من إدارة مالية متماسكة.

وفي انتخابات 2018، لم يستخدم العبادي سلطته ولم يستغل موارد الدولة في حملته الانتخابية وقتذاك ، ولم يتقاتل من أجل البقاء، ومع ذلك كافأته المحافظات المحررة، ومنها نينوى، عبر انتخاب نواب ( النصر ). ويشهد المنصفون أنه تصرف بروحية وطنية، عابرة للطائفية، في اختياراته للمواقع القيادية، ولا سيما العسكرية منها.
كما نجح، ولأول مرة منذ 2003، في إنهاء ملف المناطق المتنازع عليها، وأعاد كركوك سلميًا بعد استفتاء 2017، محافظًا على وحدة البلاد، وحاميًا الإقليم من تدخلات إقليمية كانت وشيكة.

وفي المجال الاقتصادي، خطى خطوات جادة لفرض التعرفة الكمركية على المنافذ كافة، وأجبر الشركات على العودة إلى موانئ البصرة، بعد سنوات من التهريب عبر منافذ غير خاضعة للرقابة. كما أوقف شبكات تهريب خطيرة في المطارات، كانت تُدخل أدوية نافذة وأغذية فاسدة ومواد سامة إلى الأسواق العراقية.

ولا يعني كل ما تقدم أن فترة حكم العبادي كانت خالية من الأخطاء، إذ لم يكن حازمًا بما يكفي في ملف مكافحة الفساد، وهو ما دفعنا حينها إلى الخروج في تظاهرات واسعة.
والحديث في هذا الباب يطول، وله ما له وعليه ما عليه، بما في ذلك استقالته من حزب الدعوة، وما ترتب عليها من آثار.

لذلك، أرى أن التوافق على الدكتور حيدر العبادي، في هذه المرحلة، قد يشكل خيارًا انتقاليًا، وربانًا مجرَّبًا قادرًا على إيصال البلاد إلى برّ أمان نسبي، بأقل الخسائر، ولمدة محددة ومؤقتة، شريطة منحه الفرصة لاختيار حكومة نوعية، كفوءة، وذات حلول واقعية.

وهذا الطرح لا يعني القبول بحكومة توافقية تقليدية، بل الالتزام بالمسار الدستوري، عبر تكليف مرشح الكتلة النيابية الأكثر عددًا، بعد انعقاد الجلسة الأولى لمجلس النواب والتي ستعقد في الاسبوع المقبل .
وكنا نأمل أن يشهد المجلس الجديد بدورته السادسة ولادة معارضة حقيقية، تضم مستقلين ضمن قوى فائزة، قادرة على إحداث حراك مختلف في الأداء واللغة، إلا أن نجاح ذلك يبقى مرهونًا بقدرة نواب المعارضة على العمل وسط منظومة اعتادت المغانمة.

خلاصة القول، إن المرحلة الراهنة تحتاج إلى شخصية مجرَّبة، تمتلك خبرة في إدارة الأزمات المالية والاقتصادية والأمنية، وفهمًا عميقًا لتعقيدات المشهد السياسي الداخلي، وقدرة على استعادة ثقة المجتمع الدولي، إلى جانب قبول مجتمعي معقول.
كما أن من الضروري أن تُمنح هذه الشخصية مساحة حقيقية لاختيار فريق عمل صغير، متجانس، وقوي ، إذ إن جوهر الإشكال ليس في اسم رئيس مجلس الوزراء بقدر ما هو في تمكينه من تنفيذ رؤيته وبرنامجه، بعيدًا عن ضغوط المحاصصة.

فما جدوى اختيار شخص كفوء بفريق ضعيف؟ أو العكس؟ التجارب السابقة أثبتت أن حكومات المغانمة لا تنتج سوى شخصيات هشة، تُمرَّر من خلالها إرادات الاحزاب ،لينتهي الأمر إلى احتجاجات أوسع وأقسى.

حفظ الله العراق وشعبه

الوسوم: