منصة ثقافية أدبية

هل نحن مجانين؟ / نهلة الدراجي


بتاريخ ديسمبر 15, 2025 | في اراء حرة

المشاهدات : 7



      نهلة الدراجي

تساؤل يقرع أبواب الفلسفة والوجود هل نحن مجانين؟ قد يبدو السؤال استفزازيا لكنه ليس اتهاما بقدرما هو دعوة للغوص في الأعماق المظلمة والمضيئة لـ الأنا البشرية فإذا كان الجنون هو الخروج عنالمألوف والمنطقي فكم مرة في اليوم تخرج أنا كل واحد منا عن مسار العقلانية المعلنة..؟

إن الإنسان المعاصر يعيش انفصاما وجوديا عميقا من جهة نحن نعلن انتصارنا للعقل ونؤسس حضاراتعلى منطق الرياضيات والعلوم ومن جهة أخرى نغرق أنفسنا في دوامات من الخوف والقلق ونكررالأخطاء التاريخية ذاتها بغباء مدهش ونخوض حروبا نعلم مسبقا أنها لن تجلب سوى الدمار أليس هذاقمة الجنون المنظم..!

تحليل الشخصية يكشف أن الأنا٨ ليست كيانا متماسكا وثابتا، بل هي ساحة معركة دائمة ووفقا للتحليلالنفسي العميق الذي أسس له سيغموند فرويد في كتابه مقدمة في التحليل النفسي تتصارع داخلنا ثلاثةقوى الهو Id والأنا العليا Superego والأنا Ego إن الجنون لا يكمن فقط في سيطرة الهو التامة بل فيفشل الأنا في إدارة هذا الصراع فعندما نعطي الأهمية القصوى لمظاهرنا الخارجية ونعيش وفق توقعاتالآخرين هنا سيطرة زائفة للأنا العليا، بينما تقودنا دوافعنا الداخلية سرا تلبية قوى (الهو)، في الخفاءنصبح كائنات مزيفة نرتدي قناع العقلانية، بينما قلوبنا مسكونة بالفوضى هذا التناقض هو جوهر الجنونالمستتر..

في عصرنا الحالي يتبلور شكل جديد من الجنون جنون الذات الزائفة إذ  تحدث الطبيب النفسي دونالدوينيكوت عن هذا المفهوم مشيرا إلى أننا ننشئ ذاتا زائفة تتكون من التنازلات المستمرة لإرضاء الآخرينأو لتلبية توقعات المجتمع.. نحن نسعى بشكل قهري لعرض نسخة مصقولة ومثالية من ذواتنا علىالعالم خاصة عبر الفضاء الافتراضي نحن نستهلك بلا وعي ونقارن بلا رحمة ونشعر بالنقص بشكل دائملأننا نرفض الاعتراف بإنسانيتنا الناقصة..

هل هناك جنون أكبر من أن نهدر حياتنا في محاولة أن نكون شخصا آخر أو في مطاردة صورة لا وجود لهاإلا في خيالنا ..؟  إن الشخصية السوية في عمقها الفلسفي هي التي تملك الشجاعة لتعترف بفوضاهاوغموضها وضعفها دون أن تهرب منها، أما الذي يهرب دائما إلى مثاليات غير قابلة للتحقيق فهو يعيشفي حالة جنون نكران الذات.

قد لا نكون مجانين بالمعنى السريري للكلمة لكننا بالتأكيد نعيش في حالة من الجنون الوجودي حيثالمنطق غائب والوعي مشوش، العلاج الفلسفي لهذا الجنون يبدأ بالاعتراف به وبما أسماه الفيلسوفألبير كامو في أسطورة سيزيف بـ العبث الوجودي.

أن تدرك أنك لست كيانا واحدا متكاملا بل خليط من الرغبات المتضاربة والمخاوف القديمة هو بدايةالعقلانية الحقيقية عندما نتوقف عن محاولة كبت الجانب المجنون فينا ونبدأ بالاستماع إليه وتحليلهعندها فقط نتمكن من قيادة الأنا نحو حريتها المستنيرة..

السؤال ليس هل نحن مجانين بل متى سنقرر أن نكون أحرارا لأن الحرية الحقيقية تكمن في قبولنالتناقضاتنا البشرية والعيش بسلام مع الضوضاء التي لا تتوقف داخلنا..

                

                         

الوسوم: