حيدر صبي
لنفكك بداية وهم ما نسميه “العدو الخارجي” ثم امرر بكم بنقدٌ صارم لبنية الإزاحة الفكرية للحدث فيالتاريخ الإسلامي وقبل ان نثبت بشيء من الايجاز من أن الأمم لا تنهض بالأساطير ولا ترمي فشلها علىشماعات الآخرين بل على مواجهة الحقيقة كما هي وان كانت مرّة .
فمنذ القرون الأولى لتشكّل الوعي الإسلامي ، ترسّخت في فكر الانسان المسلم عادة عجيبة تتمثل في ردّكل إخفاق ، وكل اضطراب ، وكل انقسام دموي إلى « فاعل خارجي » غامض يتربّص بالأمة وينتظرالفرص لتنزيقها .
دأب العقل السياسي والديني في بلاد المسلمين وحال مواجهته للأزمات باستحضار شخصيات موهومةومؤامرات خطط لها في دهاليز الاعداء ، تلك المؤامرات التي لا يمكن الا ان يكون لليهود يد في صناعتهاناهيك عن الغرب ” الكافر ” ، مروراً بالفرس والروم ، وكأن الأمة خُلقت معصومة من الزلل ولايمكن لهابأي موضع ان تقع في خلل ما وان كان ليس بقصدية ، انها امة لا تعاني من ضعفٍ إداري ولا فسادٍسياسي وهي بعيدة كل البعد من ان تكون مصابة بضيق أفق معرفي ، منه اصبحت الأمة الإسلاميةالقطب الأوحد في ادارة الكوكب الأخضر .. اليس كذلك ؟ .
هذه الذهنية ليست ترفاً خطابياً ، هي بنية تفسيرية صلبة اشتغل عليها لقرون ورسّخها الفقهاءوالسلاطين ورجالات الدعوة ، فتحولت مع الزمن إلى « قدر فكري » يحكم الثقافة الإسلامية ويشلّقدرتها على مواجهة ذاتها .
العلل ثم النتائج ونوجزها بالآتي ؛
أولاً : آلية الإزاحة .. حين يتحول الفشل إلى جريمة يرتكبها الآخر
الإحالة المستمرة إلى علّة « المؤامرة » ليست سوى آلية دفاع بدائية هشّة يُراد بها حماية صورة الذاتالمسلمة من التصدّع . ولأجل أن نقفز على العرف السائد وندحضه لابد وان نتحلى بالشجاعة لنعترف من أن ( الفتنة الكبرى أو انهيار الدولة الأموية أو فساد الحكم العباسي أو فشل الدولة الحديثة ) ماهيةغير ظواهر نشأت من داخل البنية الإسلامية نفسها ولا دخل للخارج سوى ما سمح به ضعف الداخلليجعل من نفسه فريسة سهلة له .
نقول ؛ لقد جرى تصنيع رواياتٍ تُلقي بثقل التاريخ على « عدوّ خارجي » فهناك روايات هوّدت الأخطاءونصّرت الخطيئة وغلّفت الفشل بأغلفة بينية براقة ، فكما اختبأت الكنيسة الأوروبية خلف “ العدواليهودي” لتبرير إخفاقاتها ، نسخ العقل الإسلامي القاعدة ذاتها لكن بأشدّ صيغها رسوخاً في الفكر فباتاللاوعي يلهج بها دونما تدقيق ودراية .
ثانياً : أسطورة عبد الله بن سبأ .. نموذج للوهم المُقدس
لا توجد شخصية في تاريخ الإسلام حُمّلت ما لا تحتمله الروايات مثل شخصية عبد الله بن سبأ .
رجل قيل إنه يهودي من اليمن ، وأنه اخترق صفوف المسلمين ، وانه حرّض على الخليفة عثمان ، وهومن قاد ثورات الأمصار ، فكان ان اصبح النتيجة لعلة انتاج نواة الانشقاق السني – الشيعي بمدّ الصراعاتالقائمة حتى الآن . ان شخصية عبد الله بن سبأ وبمقاربة قدراته الفذة والخارقة بما اخرجته لنا الرواياتوبمنهج علمي صارم تفضي إلى ما يلي من النتائج :
1. الرواية مؤسسة على راوية متروك وكذّاب
معظم ما أورده الطبري عن ابن سبأ اعتمد فيه على سيف بن عمر ، وهو راوٍ أجمع أهل الجرح والتعديلعلى ضعفه ، بل وصفه ابن معين بأنه “ ضعيف الحديث ” ، بينما قال عنه الذهبي بأنه “متروك” بمعنىحين يسقط السند يسقط المتن منه .
2. حضورٌ خافت في أمهات المصادر
المؤرخون الأوائل ك ( البلاذري ، المسعودي ، الواقدي ) سجّلوا أحداث الفتنة الكبرى بتفاصيلهاالمتشابكة ، ولم يسندوا لابن سبأ أي دور محوري فيها ! . واذن فغياب هذه الشخصية عن المدوناتالمعتبرة الجامعة للتواتر والتصحيح يضع الرواية كلّها موضع الشكّ المنهجي .
3. الدراسات الشرقية والغربية تميل إلى نفي وجوده
جولدزيهر ونولدكه وطه حسين وغيرهم يرون أن ابن سبأ أقرب إلى « مُنتَج سياسي » ظهر في الحقبةالأموية والعباسية لاتخاذه صمام هروب من مواجهة الحقيقة المرعبة التي تقول : أن المسلمينأنفسهم لا اليهود هم الذين أشعلوا الفتنة الكبرى واقتتلوا على السلطة .
4. انعدام القرينة اليهودية التاريخية
لم تُسجّل الوثائق اليهودية أي أثر لرجل لعب هكذا دور ، وهي بطبيعتها مدونات حريصة على حفظ أيشخصية ذات صلة بتاريخ اليهود في الجزيرة العربية .
5. عدم معقولية الفكرة في أصلها
من المستحيل عقلاً أن يشعل رجل واحد مهما بلغ دهاؤه فتنةً هزّت أركان الدولة الإسلامية ، لا بلاستطاع من خداع كبار الصحابة والقادة والفقهاء ، وهذا يؤكد من ان الفكرة ذاتها تحمل بذور دحضهااذ لايمكن للنفي أن يؤكد الإثبات في ذوات النفي المثبت ، وعليه فإن أسطورة ابن سبأ ليست سوىعملية إسقاط سياسي ممنهج ، أُريد بها إعفاء الفرق المتصارعة من مسؤولية الدم الذي سُفك ، وإلقاءاللوم على « الآخر » ما يُسهّل اتهامه وبذات الوقت لا يمكن محاسبته .
ثالثاً : العدو الخارجي كجهاز وظيفي داخل الثقافة الإسلامية
لنسأل بداية ؛ لماذا رسخت هذه البنية ليومنا هذا ؟ ، والجواب ، لأنها جهازٌ وظيفي يخدم غايات متعددةمنها على سبيل المثال لا الحصر ( توحيد الجماعة في مواجهة خصم خارجي مفترض ، ترميم الشرعيةالسياسية عند الفشل ، تحصين السلطة الدينية من النقد ، تأجيل مواجهة الأسئلة الكبرى حول الحكموالحرية والعقل ) وبذلك أصبحت ثقافة « المؤامرة » جزءاً لا بتجزء من النظام المعرفي ذاته .
رابعاً: حين يُقصى العقل يُستدعى المجهول وتسود الخرافة
المجتمعات التي تتجنب المكاشفة تنتج حتماً سردياتٍ أسطورية ، ولأن العقل المسلم ولأسباب تاريخيةوعقائدية معقدة خضع طويلاً لهيمنة الفقه التقليدي المتزمت فلم يُتح له ان يطوّر من ادواته للوصولالى مزية النقد البنيوي الشجاع ، كما فعلت أوروبا حين خاضت صراعها الطويل مع الكنيسة فانتهت إلىعصر العلمانية والعقل والتنوير ، مع ان أوروبا كان لها اعداء كثر غير انها نهضت ، وسبب نهوضها كانلإمتلاكها الجرأة لتسمّي الأشياء بأسمائها ولتفصل بين المقدّس والحكم ، وبين اللاهوت والدولة ، فيما نحن لازلنا نُعيد تدوير الخطاب ذاته فنعلل الأزمة ب ” الغزو الثقافي ، ونحيل الإخفاق الى صيرورة “مؤامرة غربية” ، بينما نرجع الفساد الى “ يد يهودية ” مُدّت لتنهب ثروات بلادنا وتعبث بامننا وتلويثعقولنا منطلقين من علّة الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي ، وهكذا تبقى الأمراض نفسها وتبقى الأسبابنفسها ويتكرر التاريخ نفسه .
خامساً : نحو وعي يتجاوز السردية المؤامراتية
لانّ إعادة قراءة التاريخ الإسلامي بعيداً عن الوهم بات ضرورة وجودية ولا يدخل من باب الترف المعرفيلذا حان الوقت لأن نقرّ بأن ( الفتنة الكبرى لم تصنعها يد يهودية وان الانقسام السني –الشيعي لم يَزرعهُرجل غامض وكذلك فشل الدولة الحديثة لا تصنعه غرف مظلمة خارج الحدود ) بل هو نتاج ” خللداخلي عميق في بنية السياسة والثقافة والحكم “ لذا فالتقدّم يبدأ من لحظة الاعتراف بالنكوص ووهمالمؤامرة كي نكسر كمسلمين الحلقة النفسية التي تجعل الأمة أسيرة “ عدو خارجي مفترض ” نتخيلهكلما عجزنا عن مواجهة انفسنا .
اخيرا نقول ؛ إن أسطورة ابن سبأ وكل سرديات المؤامرة التي تدور حولها ليست سوى وجوه مختلفةلمرض معرفي واحد ( الهروب من الذات ) .
وما لم يُكسر هذا النسق من جذوره وما لم تمتلك الأمة شجاعة الاعتراف من ان خللها من داخلها لا منخارجها، فإنها ستبقى تدور حول ذاتها لتُعيد تفسير إخفاقاتها وتحيله للشبح إياه وهنا ستُفوّت علىنفسها فرصاً تاريخية للنهضة والتطور ، ذلك أن الأمم لا تنهض بالأساطير ولا تبني مستقبلها علىشماعات الآخر العدو بل على مواجهة الحقيقة كما هي ولو كانت موجعة .
