منصة ثقافية أدبية

 من يريد الحرية فعلاً؟ – فلاح الكلابي


بتاريخ نوفمبر 9, 2025 | في اراء حرة

المشاهدات : 97


يُروى أن فلاحاً واجه جيفارا في الجبال وقال له غاضباً: منذ أن جئت وتبعتك النسور، جلبت الخراب معك، وماعزي لم تعد تدر الحليب من الخوف. أنا أريد الحرية، وأنت تجلب الخراب. توقف جيفارا مذهولاً، لم يعرف بماذا يرد، لأن الجملة البسيطة التي نطق بها الفلاح كانت كفيلة بقلب كل معنى الثورة رأساً على عقب. ماذا تعني الحرية إذا كان ثمنها الجوع والخوف؟ وهل يمكن أن تكون الحرية، في نظر البعض، خراباً؟ ربما لم يكن الفلاح يكره الحرية، بل كان يخاف ثمنها. كان يريد الطمأنينة لا المغامرة، الأمان لا المجهول، بينما كان جيفارا يرى أن الخراب المؤقت هو الطريق الوحيد إلى حرية دائمة. ومن هنا يبدأ الصراع الأبدي بين من يحلم بالحرية ومن يخشاها. لكن السؤال الذي يطاردنا جميعاً: من يريد الحرية حقاً، ومن يختبئ خلفها؟

في العراق، الكل يتحدث عن الحرية، الكل يريدها، الكل يتغنى بها، لكنها عند كل واحد منهم تعني شيئاً مختلفاً. السياسي الذي يطالب بالانتخابات يريد الحرية، والذي يقاطعها يريدها أيضاً. السني يريد الحرية، والشيعي يريد الحرية، والكردي يريد الحرية، ولكن كل واحد منهم يريد حرية تخصه وحده، حرية تُشبهه ولا تشبه غيره، حرية تسمح له أن يتنفس، لكنها لا تسمح لغيره أن يتكلم. صرنا نرفع شعار الحرية ونحن نحمل في أيدينا قيوداً جديدة. نثور على الاستبداد، ثم نمارسه باسم الطائفة أو الحزب أو المذهب. نرفض الصمت، لكننا نغضب حين يتكلم المختلف. نريد أن نتحرر من السلطة، لكننا لا نحتمل الحرية داخل أنفسنا.

كأننا نطلب الحرية ونحن خائفون منها، نرغب بها بشرط ألا تغير شيئاً، نريدها بلا فوضى، بلا خسائر، بلا مسؤولية. نريدها أن تطرق الباب بهدوء، لا أن تقتحمه. نريدها ترفاً لا تحولاً، شعاراً لا سلوكاً. لهذا تبدو الحرية عندنا لعنة أكثر منها خلاصاً. نذكرها في الخطب والجدالات والمهرجانات، لكنها تغيب حين نصمت أمام الظلم أو نبرّر له. الحرية الحقيقية لا تُمنح، ولا تُستورد، ولا تُعلق على اللافتات. إنها لحظة يواجه فيها الإنسان نفسه قبل أن يواجه السلطة، لحظة يعترف فيها أن للآخر الحق في أن يكون مختلفاً، وأن حرية الرأي لا معنى لها إن لم تبدأ بحرية الإصغاء.

ربما لم يكن جيفارا مخطئاً، ولا الفلاح أيضاً. الأول رأى الحرية من أعلى الجبل، والثاني رآها من حضن الخوف، وبينهما كانت الحقيقة تتسلل بين الدخان والتراب. ونحن اليوم ما زلنا نعيش هذا التمزق ذاته: نحلم بالحرية كما نحلم بالمطر، لكننا نرتبك حين تهطل، لأننا لا نعرف ماذا نفعل بعدها. نريد أن نتحرر، لكننا لا نعرف من من. نصرخ ضد القيد، ثم نبحث عن قيد جديد يؤمن لنا الشعور بالأمان. الحرية ليست ضد النظام، بل ضد التبعية. ليست ضد الدين أو الهوية أو الوطن، بل ضد تحويلها إلى سجن مغلق باسمها.

الحرية لا تقاس بعدد الهتافات ولا بارتفاع الأعلام، بل بقدرتنا على أن نحترم من لا يشبهنا، وأن نحيا بضمير لا يخاف، وأن نتحمل ثمن مواقفنا دون تراجع أو تبرير. يوم نفهم ذلك، سنكف عن ترديد كلمة الحرية كأنها أمنية، وسنبدأ أخيراً بالعيش كأحرار.

 

الوسوم: