محمد الكلابي
في كل موسمٍ انتخابي، تتزيّن المدن باللافتات، وتضجّ الشوارع بالأصوات، وتعيش القلوب على إيقاع الانتظار. يتحدّث الناس عن المرشحين، وعن وعودٍ تتكرّر كل دورةٍ بثوبٍ جديد. غير أنّ خلف هذا الضجيج الظاهر، هناك سكونٌ أعمق لا يُسمَع: سكون العقول وهي تختار في سرّها. فقبل أن نصل إلى صناديق الاقتراع، نكون قد حسمنا سلفاً لمن نُعطي ثقتنا في داخلنا.
نحن لا نختار ورقةً فحسب، بل نختار طريقةً في النظر إلى العالم.
كلّ إنسانٍ يحمل في داخله صندوقاً صغيراً لا يُرى، يضع فيه أصواته اليومية: حين يتغافل عن خطأ، أو يصمت أمام ظلم، أو يكرّر ما اعتاده من سلوكٍ بلا سؤال، أو يجرؤ على رأيٍ يخالف الجمع. هناك، في تلك اللحظات البسيطة، يتكوّن نمط اختياره. لذلك، حين تأتي الانتخابات، لا يختار الإنسان صدفةً، بل يُعيد إنتاج ما تربّى عليه في وعيه: الخوف، أو الطمأنينة، أو المصلحة، أو الفكرة.
الذي يُسلّم أمره للسكوت كل يوم، سيبحث في السياسة عمّن يُريحه من قول الحقيقة.
والذي يألف التكرار في بيته وعمله، سيألفه أيضاً في ورقته الانتخابية.
أما من اعتاد أن يسأل وأن يواجه، فسيميل إلى من يوقظ فيه الشجاعة لا إلى من يُرضيه بالطمأنينة.
داخل كلّ واحدٍ منّا أصواتٌ تتنازع قبل أيّ انتخاباتٍ عامة:
صوتُ الخوف يريد الأمان ولو على حساب التغيير،
وصوتُ الراحة يطلب الاستقرار ولو في الطريق الخاطئ،
وصوتُ المصلحة يسعى إلى مكسبٍ سريعٍ يخفّف ضيق اللحظة،
ثم يأتي صوتُ الفكرة، أضعفها عادةً، لكنه الأصدق متى أُتيح له أن يتكلّم.
هذه الأصوات ليست خطأً في ذاتها؛ فهي جزءٌ من إنسانيّتنا. الخوفُ يحمي، والسكينةُ تنظّم، والمصلحةُ تُعين على العيش. لكنّ الخلل يبدأ حين تتحوّل هذه الأصوات إلى أوامر لا تُراجَع، فتقودنا بلا وعيٍ من داخلنا، حتى نظنّ أننا نختار بينما نحن نُقاد. عندها يصبح المرء تابعاً لما يألفه، لا لما يؤمن به.
حين نضع الورقة في الصندوق العام، يظنّ كثيرون أن اللحظة السياسية وحدها هي التي تصنع المصير، لكنّ الحقيقة أعمق من ذلك. ما نفعله عند الاقتراع ليس إلا انعكاساً لما نفعله كلّ يومٍ في قراراتنا الصغيرة. من لم يتدرّب على الصدق في اختياراته اليومية، لن يكتسبه فجأةً في السياسة، ومن لم يتعلّم الشجاعة في مواقفه البسيطة، لن يجدها في ساعة القرار.
لا أريد من هذا الحديث أن يُحمِّل الناسَ اللوم، ولا أن يُبرّئ من يسيء استخدام السلطة، بل أن يكشف تلك الصلة الخفية بين الداخل والخارج. فكلّ نظامٍ في جوهره صورةٌ مكبّرةٌ للعقول التي صنعته، والعقولُ نفسها مرآةٌ لاختياراتٍ متكرّرةٍ تمارسها كلّ يومٍ من دون وعيٍ: ماذا نُصدّق؟ عمّن نسكت؟ ولِمَ نُبرّر ما لا يُبرَّر؟
الانتخاب الحقيقي لا يحدث كل أربع سنوات، بل كل صباحٍ حين نختار بين أن نفكّر أو نتواطأ، بين أن نواجه أو نتغاضى، بين أن نختبر الحقيقة أو نكتفي بما يُقال لنا. تلك هي الانتخابات التي تُقرّر شكل حياتنا قبل أن تُفرز صناديقنا أسماء الفائزين.
قبل أن نذهب إلى الصندوق، علينا أن نسأل أنفسنا بصدق:
هل أنتخب لأنني اقتنعت بالفكرة… أم لأن صاحبها صديقي أو من عشيرتي؟
هل أفكر في مصلحة البلد… أم في مصلحتي وحدي؟
هل ما زلت أؤمن أن صوتي يمكن أن يغيّر… أم أنني أشارك لأتخلّص من شعور العجز؟
وهل سأحترم خياري حين أنظر إلى نفسي بعد أربع سنوات؟
من يملك شجاعة هذه الأسئلة، يخطو الخطوة الأولى نحو وعيٍ حرّ لا تحكمه الدعاية ولا الاستسلام للعادي والمريح.
فالحرية لا تبدأ من الصندوق، بل من الرأس.
ولأنّ العقل هو صندوق الاقتراع الأول، فإنّ من لم يُراجع أصواته في الداخل، سيظلّ يبدّل الوجوه ويعيش النتيجة نفسها.
