فلاح الكلابي
في مشهد من رواية حلم العمر لدوستويفسكي، يظهر رجل ببزّة رسمية أنيقة، محاط بالاحترام في الظاهر، لكن الكاتب يعرّيه بلمسة ساخرة: ليس أكثر من خروف أضاع طريقه، يجرّ قدميه بارتباك، لا يعرف أين يقف ولا كيف يتصرف. قوته ليست منه، بل من الكرسي الذي يجلس عليه. فإذا أُبعد عنه، سقط سقوطاً مدوّياً، لأن لا شيء بداخله يحفظه واقفاً.
هذه الصورة ليست مجرد تفصيل أدبي، بل مرآة فاضحة لما نراه في حياتنا السياسية اليوم. كم من سياسي يلمع فقط حين تحيطه الأضواء والمواكب، لكنه عند أول امتحان يظهر صغيراً، متردداً، بلا فكر ولا شجاعة. يبدو أنه يملك السلطة، لكنه في الحقيقة عبد لها: وجوده مرهون بوجودها، وإذا زالت عنه تلاشى.
السياسي العراقي اليوم هو النسخة الواقعية من بطل دوستويفسكي: رجل لا يعرف نفسه خارج منصبه. يظن أن البدلة تصنع مهابة، وأن الحرس يصنع سلطة، وأن الصور في الإعلام تكفي ليبدو زعيماً. لكنه ينسى أن كل هذه الزينة قشرة، وأن الناس سرعان ما يكتشفون ما وراءها. والمفارقة أن المنصب لا يغطي ضعف صاحبه، بل يضخّمه ويبرزه، فيتحوّل إلى مرآة تكشف خواء الداخل.
ما يثير السخرية أن البسطاء من الناس، من لا يملكون سوى قوت يومهم، أكثر حضوراً وكرامة من سياسي يختبئ خلف لقب أو كرسي. الأم التي تدبّر بيتها في وجه العوز أصلب من مسؤول ينهار أمام سؤال صحفي. والعامل الذي يكسب رزقه بعرق جبينه أصدق من خطيب يملأ المنابر شعارات فارغة. هؤلاء يملكون جذوراً في الحياة، أما السياسي الفارغ فلا يملك سوى أوراق رسمية تسقط عنه متى تغيّرت الموازين.
المأساة لا تكمن في هؤلاء الرجال وحدهم، بل في مجتمعٍ يمنح الهيبة للمنصب قبل أن يمنحها للشخص. نحن الذين نصنع لهم هالة لا يستحقونها، فنرفعهم بالكراسي وننسى أنهم بلا كراسٍ مجرد أشخاص عاديين، بل أقل من عاديين. وهنا يتكرر المشهد الذي وصفه دوستويفسكي: رجل يظن نفسه قائداً، لكنه في نظر الحقيقة ليس إلا ظلاً لمقعد.
إن أخطر ما في هذا النمط من السياسيين أنه يحوّل الدولة إلى مسرحية هزيلة: مواكب أكثر من قرارات، خطابات أكثر من إنجازات، ألقاب أكثر من أفعال. وكلما زادت الزينة، انكشف الفراغ. إنها سلطة لا تزرع الثقة، بل تصدّر الوهم.
دوستويفسكي أراد أن يقول إن المنصب لا يرفع من لا جوهر له، بل يفضحه ويكشف عجزه. واليوم نحن نعيش هذه الحقيقة بأدق تفاصيلها. ما لم نكسر هذه الحلقة المفرغة، سيبقى العراق محكوماً برجال بلا جذور، رجال يسقطون مع الكرسي لأنهم لم يعرفوا يوماً كيف يقفون بدونه.
