منصة ثقافية أدبية

من يحتاج التربية الأخلاقية؟


بتاريخ سبتمبر 12, 2025 | في اراء حرة

المشاهدات : 39


فلاح الكلابي

في كل حديث عن إصلاح المجتمع، تبرز قضية التربية الأخلاقية كأحد أهم الركائز. لا عجب أن نسمع بين الحين والآخر دعوات تطالب بإدراج مادة الأخلاق ضمن المناهج الدراسية، خاصة في المراحل الابتدائية هي فكرة نبيلة في جوهرها، تهدف إلى بناء أجيال مسلحة بالقيم والمبادئ، قادرة على مواجهة تحديات المستقبل بوعي ونزاهة. لكن، هل فكرنا للحظة أن هذه التربية التي نسعى لغرسها في نفوس الصغار، قد أصبحنا نحن الكبار أحوج إليها؟

عندما نتجول في أروقة مؤسساتنا الحكومية، وتحديداً في الدوائر الرسمية التي من المفترض أن تكون واجهة للخدمة والنزاهة، نصطدم أحياناً بواقع مؤلم. نجد موظفاً كان من المفترض أن يكون خادماً للمجتمع، يتحول إلى سيدٍ متسلط. هذا السلوك يتجلى بوضوح لدى بعض أصحاب المناصب الرفيعة والرتب العسكرية، الذين يتخذون من سلطتهم وسيلة للاستعلاء على المواطنين، بدلاً من أن تكون أداة لخدمتهم.

المفارقة تكمن في أن هؤلاء الموظفين يتقاضون أجوراً سخية من خزينة الدولة، وهي أموال دافعي الضرائب. هذه الأموال هي في حقيقتها مقابل خدمة واجبة، خدمة يجب أن تُقدم بفاعلية واحترام. لكن للأسف، يتحول هذا الواجب إلى منة أو إحسان، وكأن المواطن هو الذي يطلب خدمة شخصية، وليس حقاً من حقوقه الأساسية. الأمر يزداد تعقيداً حين نعلم أن بعض هؤلاء الموظفين قد دفعوا مبالغ طائلة للحصول على وظائفهم، مما يجعلهم يرون في المنصب استثماراً يجب أن يحقق لهم الربح، وليس واجباً أخلاقياً يجب أن يؤدوه باخلاص.

هذه العقلية الخاطئة هي التي تحول الدوائر الحكومية إلى ما يشبه الإقطاعيات الشخصية. الموظف الذي يرى في مكتبه مملكة خاصة، يملي فيها شروطه ويضع قواعده الخاصة، ينسى أن هذه المساحة هي ملك عام، خصصت لخدمة المواطن، لا لإقامة الولائم الشخصية أو الاجتماعات التي لا تمت للمصلحة العامة بصلة. الأمر يتجاوز هذا، ليصل إلى تحويل أماكن العمل إلى قاعات لاستقبال العزاء وإقامة الفواتح، وكأن المؤسسة ليست مخصصة للعمل، بل للأنشطة الاجتماعية التي تستهلك وقت المراجعين وتعطّل مصالحهم.

إن هذا السلوك لا يبرر بأي حال من الأحوال. الدولة، ممثلةً في مؤسساتها، يجب أن تكون قدوة في النزاهة والأخلاق المهنية. ولذلك، باتت الحاجة ماسة إلى إعادة تأهيل هؤلاء الموظفين أخلاقياً ومهنياً. يجب أن يعاد غرس فكرة أن الوظيفة العامة هي خدمة وليست سلطة وأن منصبه هو أمانة يجب أن يؤديها بإخلاص. هذا التغيير يجب أن يبدأ من القمة، لكي يتدفق إلى كل المستويات.

في خضم هذا الواقع، لا يسعنا إلا أن نرفع القبعة احتراماً لكل موظف شريف، يدرك قيمة وقته ووقت المراجعين. هؤلاء هم الأمل الحقيقي في بناء مجتمع أفضل، فهم من يمثلون الوجه المشرق للمؤسسات الحكومية، ويؤكدون أن الأخلاق المهنية ليست مجرد شعارات، بل هي واقع يمكن تحقيقه على أرض الواقع. التربية الأخلاقية ليست مادة تُدرس في الكتب فقط، بل هي سلوك يُمارس في الحياة اليومية، ويبدأ من أبسط التفاصيل في تعاملاتنا.

الوسوم: