منصة ثقافية أدبية

الدراية الإعلامية والمعلوماتية ملامح وعي جديد في زمن التحولات


بتاريخ مايو 26, 2025 | في مقالات

المشاهدات : 20


اللواء الدكتور / سعد معن الموسوي

في زمن تتسارع فيه الإشارات وتتداخل فيه الأصوات اصبحت القدرة على التعامل مع الإعلاموالمعلومات ضرورة يومية تفرض نفسها على كل فرد يسعى للفهم ورفض الانقياد..ولم تعد القضيةتعليم مهارات تقنية بل بناء رؤية متكاملة تصنع إنسانا يدرك موقعه وسط هذا الطوفان المعرفي ويعيدضبط بوصلة وعيه امام ضجيج المنصات اللامتناهيإننا لا نتحدث عن مهارات إضافية بل عن وعيمركزي يعيد تشكيل علاقتنا بالمعرفة ذاتها

الدراية الإعلامية هي موقف ذهني يكسب المتعلم القدرة على قراءة الخطابات بعناية بعيدا عنالاستهلاك وفهم الصور لا التعلق ببريقها واكتشاف البنية الخفية وراء السرد لا الانبهار بمحتواه السطحيإنها انتقال من التلقي العفوي إلى الفهم التأويلي ومن الاستجابة الآلية إلى الموقف النقدي

حين طرحت اليونسكو رؤيتها بشأن القوانين الخمسة للدراية الإعلامية فإنها لم تكن ترسم مسارا نمطيابل تفتح أفقا لتأسيس وعي كوني مشترك يتجاوز الفروقات الثقافية دون أن يلغيها…. القوانين التي تدعوإلى حرية الوصول وتحليل الخطاب وصناعة المعرفة لا يمكن أن تختزل في بنود جامدة بل يجب أنتتحول إلى ممارسة تربوية يومية تزرع في نسيج التعليم .

لكن هذا الوعي لا يستورد جاهزا فلكل مجتمع تركيبته ولكل بيئة خصائصها ما يصلح في أوروبا قد لايتلاءم مع بنية ثقافية كالعراق حيث تتقاطع الذاكرة الجماعية مع واقع إعلامي هش وتتصادم الرواياتفي فضاء معلوماتي لا ضوابط له ، من هنا تنشأ الحاجة إلى تأصيل المفهوم  وإلى إنتاج نماذج تعليميةتنبع من حاجات المجتمع لا من تقارير المنظمات الدولية فحسب

في بيئة كالبيئة العراقية تتضاعف التحديات إذ لا يواجه المتعلم خطابا إعلاميا واحدا بل طيفا متناقضامن الرسائل يتداخل فيه السياسي بالديني والداخلي بالخارج والحقيقي بالمصطنع وهذا ما يحتّم علىالمؤسسات التعليمية أن تراجع أدواتها وأن تستبدل الحشو المعرفي بتمارين تحليلية تعيد للمدرسةدورها كمختبر للتفكير المنتج

الحديث عن الدراية الإعلامية هو حديث عن السيادة الثقافية في عصر أصبحت فيه المنصات الرقميةهي من تشكل الرأي العام وتعيد رسم الحدود الرمزية بين الشعوب من هنا تصبح كل لحظة تعليمية غيرقائمة على التمحيص لحظة مهدورة وكل درس لا يحرّك التفكير النقدي درسا يعمق التبعية بدل أن يفتحباب الاستقلال

ما تحتاجه مجتمعاتنا ليس مادة دراسية جديدة بل منهجية متكاملة تجعل من القراءة فعل مقاومة ومنالكتابة أداة بناء ومن المتعلم شريكا في صياغة المستقبل لا متلقيا لفتات الماضيهذا التحول لايتحقق بقرارات فوقية بل بعمل تراكمي يستثمر المعلم بوصفه فاعلا مثقفا والطالب بوصفه عقلا حيا .

لقد أصبح الوعي الإعلامي اليوم أحد مفاتيح البقاء الثقافي ليس بوصفه تقنية للتمييز بين الخبر الكاذبوالحقيقي فحسب بل كقدرة على طرح الأسئلة الصعبة وتفكيك الصور النمطية والتعامل مع المعلومةكجزء من معركة رمزية مستمرة

من هنا لا تقرأ دعوة اليونسكو بوصفها تعليمات جاهزة بل كنقطة انطلاق لمشروع حضاري يستند إلىالمعرفة بوصفها عملية حية تتطلب الجرأة على النقد والقدرة على الاختيار والوعي بديناميكيات الخطابفي زمن لم تعد فيه الحقيقة بريئة ولا الكذب ساذجا

الوسوم: