أمير علي المعموري
مع اقتراب كل موسم انتخابي في العراق، يعود السؤال نفسه ليُطرح بإلحاح: ما الذي يحكم خياراتالناخب؟ هل هو العقل الذي يُرجّح المصلحة العامة؟ أم القلب المائل نحو الطائفة والحزب والعشيرة؟أم أن القرار الانتخابي لا يعدو كونه استجابة آنية لوعود مؤقتة تُقدّم في اللحظة الحرجة؟
لفهم خيارات الناخب لا يكفي النظر إلى سلوك الناخب في الحاضر فقط، بل لا بد من الغوص في السياقالنفسي والاجتماعي والسياسي الذي تراكم عبر عقود من الأزمات، فمن الديكتاتوريات والحروب، إلىالعقوبات والاحتلال، ثم فوضى ما بعد 2003، مرَّ العراقي بتجارب عميقة التأثير شكّلت وعيه الجمعي،وصاغت نمط تفكيره السياسي، فالعقل الانتخابي العراقي لا يتحرك في فراغ، بل يعكس خريطة طويلة منالخيبات والصدمات.
لقد خاض العراق حروبًا متعددة، من حرب إيران الى صدمة داعش، وتعرض لأزمات سياسية واقتصاديةمستمرة، هذه التجارب المتراكمة كوّنت عقلًا انتخابيًا مترددًا، ممزقًا بين الخوف من التغيير والحنينإليه،ذاكرة جماعية مثقلة بالتحوّلات المفاجئة والانهيارات، جعلت من التغيير مشروعًا محفوفًابالمخاوف أكثر من كونه فرصة، وهكذا، نشأ نوع من “الانفصام الانتخابي”: المواطن يدرك تمامًا فسادالمنظومة السياسية، لكنه في النهاية يعيد تدوير نفس الوجوه. ليس جهلًا بالواقع، بل شعورًا بالعجز، أوقناعة بأن التغيير لن يجلب سوى انتكاسة جديدة، أو لأن المصالح الضيقة تُسيّر القرار وتحجّمه.
هذا الانفصام يتعمّق حين يتحول التصويت من فعل ديمقراطي فردي إلى التزام جماعي تمليه الهوياتالفرعية؛ فقرار الناخب غالبًا لا يُصنع في العزلة، بل في سياق العائلة والعشيرة والحزب، وفي كثير منالمدن العراقية، تُحسم النتائج سلفًا في مجالس عشائرية أو لقاءات مغلقة، فيصبح الصوت الانتخابيواجبًا اجتماعيًا لا خيارًا حرًا.
وفي قلب هذا المشهد المعقّد، يلعب العامل الاقتصادي دورًا محوريًا،فحين يفقد المواطن ثقته فيالتغيير الشامل، ينكمش أفقه نحو “الخلاص الفردي”: وظيفة، عقد، مساعدة، أو إدراج في شبكة حمايةاجتماعية، ومع اقتصاد ريعي هش، تُستغل هذه الحاجة من قبل قوى سياسية بارعة في شراء الولاءاتتحت عباءة المساعدة، فتترسخ ثقافة “الطلب مقابل الخدمة” بدلًا من “الواجب مقابل الحق”.
ولم يكن الإعلام والدعاية الانتخابية خارج هذا السياق، بل انسجمت معه، لا يحتاج كثير من المرشحينلتقديم برامج انتخابية وسياسية متكاملة ذات قيمة ورؤية واضحة او استعراض لايديولوجياتهم بقدرحاجته صورة جذابة مع طفل او رجل مسن ومقاطع فيديو مع أغنية وطنية تُنشر على منصة “التيك توك” والشعارات الفضفاضة، أو أن يطلق وعدًا مبهمًا كي يضمن تعاطفًا فوريًا، هذه الحملات لا تخاطب العقل،بل تلعب على أوتار العاطفة، وسهولة التأثير على الجماهير في ظل ثقافة انتخابية ضعيفة وسهلةالتوجيه.
وبين هذه التناقضات، لا يمكن اعتبار الناخب العراقي ساذجًا، لكنهُمُرهَق، سيكولوجيا الاقتراع لديه خليطمن الخذلان المتكرر، والخوف، والانتماء. هو يدرك السوء، ويحلم بالأفضل، لكنه يخشى أن يكون الحلمفخًا جديدًا. فصوته لا يُطلقه بثقة، بل يتردد به كمن يسير في حقل ألغام.
ولكي نتحدث عن بناء عملية ديمقراطية حديثة في العراق،علينا اولاً ان نُعيد بناء عقل الناخب، لا منخلال تغيير قانون أو استبدال وجه سياسي فقط، بل بإحداث ثورة في الثقافة، التعليم، الوعي الجمعي،وإعادة تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، وبين المواطن وصوته، حينها فقط يمكن أن يتشكّل مشروعسياسي حقيقي يُعيد للناخب ثقته بصوته..