منصة ثقافية أدبية عراقية

وفائي ليلا: الشاعر الذي يقول ما لم نجرؤ على الاعتراف به


بتاريخ مايو 12, 2025 | في اراء حرة

محمد الكلابي

في الفترات التي تنهار فيها المفاهيم، ويصبح الإنسان أضعف من أن يعرّف نفسه أو حتى يتعرف على صوته الداخلي، تظهر نصوص لا تُقرأ بحثًا عن المعنى، بل تُشعرنا أننا نحن المعنى المنهار. قصيدة “هوية” للشاعر السوري وفائي ليلا لا تُقدّم ذاتًا تعترف، بل ذاتًا تُعلن انهيارها كمن يرفع الراية البيضاء لا اعترافًا بالهزيمة، بل لانعدام الجدوى من القتال. في هذه القصيدة لا نقرأ أنا الشاعر، بل نقرأ الذات كما لو كانت أنقاضًا تنتفض لتصرخ. منذ البداية، يبدأ النص بآلة تكرار قاتلة:

الرجل الميت في الماسنجر هو أنا

الرجل الميت في الباص هو أنا

الرجل الميت عند المحققة هو أنا

ثلاث جثث في ثلاثة فضاءات معاصرة، وكأن الشاعر يقول إن الإنسان الحديث ميت في كل محفل: في التقنية، في العبور اليومي، وفي عين السلطة. الموت هنا ليس نهاية بل هوية، والذات ليست حضورًا بل تراكم موت رمزي متكرر. كل “هو أنا” ليست تأكيدًا بل نفيًا آخر للثبات. من هذه الفجوة يبدأ الانهيار الكامل: الذات لا يمكن جمعها، لا في جملة، ولا في مهنة، ولا في انتماء، ولا في وطن.

وإذا تمعّنا أكثر في هذه البنية التكرارية، نكتشف أنها ليست فقط تقنية بلاغية، بل إعلان وجودي عن تفتت الهوية. التكرار هنا لا يرسّخ المعنى بل يلغيه، لا يثبّت الأنا بل يكشف انهيارها تحت ضغط التكرار ذاته. هذا ما يسميه زيجمونت باومان بـ”الهوية السائلة”، حيث الفرد الحديث لا يعيش هوية واحدة، بل يطفو فوق سطح من الهويات المؤقتة، المتقلبة، التي لا تملك عمقًا ولا جذرًا. كل “هو أنا” تمحو السابقة وتُنتج وهمًا جديدًا بالثبات، لكنه ثبات مصطنع، زائف، مثل إعادة بناء بيت فوق حطام لم يُرفع بعد.

الرجل الذي لا يدخن ولا يشرب ويخاف

يخاف من كل شيء

ولأي شيء

هو أنا

ليست مصادفة أن تُعرَّف الذات هنا بما لا تفعله، وكأن أفعال الامتناع وحدها التي ما زالت ممكنة. وفائي ليلا يخلع من الذات قدرتها على الفعل، ويمنحها فقط الحق في الارتجاف. الخوف هنا ليس من موقف أو تهديد، بل من العالم ككل. هذا الوعي المرتبك يجعل الكينونة قائمة على الرعب لا على الرغبة. ثم يمشي الشاعر في شوارع برلين، يمر فوق البطاقات النحاسية المثبتة في الأرض لتخليد أسماء اليهود الذين اختفوا زمن النازية، لكنه لا يمر كمراقب، بل كضحية محتملة:

الذي مشى في شوارع برلين

بالقرب من البطاقات النحاسية المثبتة على الأرض

تلك التي تؤرخ اختفاء اليهود

ويعتقد أنه المقصود

هو أنا

هذه اللحظة هي الأعمق، حيث تتحول الذاكرة الجماعية إلى مرآة ذاتية. لم يعُد الألم تاريخيًا بل شخصيًا، لم يعد الفقد يخص أحدًا، بل كل أحد. حتى أكثر المآسي تحديدًا زمانيًا وجغرافيًا تنعكس في وعي الشاعر كقدر شخصي. نحن لا نرى مأساة الآخرين، بل نتنبأ بمأساتنا فيهم. هذه القفزة من التذكّر إلى التماهي تكشف عمق الشعور بالعزلة، حيث يشعر الفرد أن كل سياق عالمي للمحو قد يُعيد تكراره عليه وحده، هنا تصبح الهوية نفسها قابلة للاضطهاد.

الشخص الذي يفقد الأمل طوال الوقت

ويعود لحمل صخرة سيزيف

إلى أعلى المستحيل

هو أنا

سيزيف هنا لا يجرّ الصخرة كتمرين تمرد، بل كعقوبة متكررة. العبث لم يعد فلسفة، بل يومًا اعتياديًا. الشاعر لا ينتمي إلى فكر كامو، بل إلى واقع أكثر بؤسًا: حيث لا حتى العبث يبدو مثيرًا. إنها دورة مستمرة من اللاحلول، حيث الصخرة ليست رمزًا بل فعلًا عضويًا يتكرّر داخل الإنسان لا خارجه.

وهنا يتقاطع النص مع مفهوم عميق في علم النفس السلوكي يُعرف بـ”العجز المكتسب” (Learned Helplessness)، الذي صاغه مارتن سليغمان. في هذا النموذج، يصبح الإنسان عاجزًا عن الخروج من وضع مؤلم، لا لأنه لا يملك القوة، بل لأنه تعلّم بالتكرار أن لا جدوى من المحاولة. في القصيدة، لا يحمل الشاعر الصخرة لأنه يأمل، بل لأنه لا يملك أي بديل آخر. الصخرة ليست تمثيلًا للعبث، بل دليل حيّ على انطفاء الإرادة.

المدّعي

الكاذب

الشهيد

اللطيف

اللئيم

القاسي

المضجر

المتناقض

جميعهم

والذي هو ليس أنا

هو

أنا

هذه ليست قائمة صفات، بل قائمة انهيارات. هنا لا نعود نواجه ذاتًا مشتتة فقط، بل ذاتًا لا تعرف هل هي هي، أم غيرها. لا مجال هنا لفصل المظهر عن الجوهر، ولا لانتقاء صفات للتعريف. الكلّ حاضر، والكلّ ناقض للكلّ، ومع ذلك، الجميع يشكلون هذا “الهو أنا”. هذا أشبه بما بعد الحداثة وقد تحوّلت إلى مأزق داخلي: لا جوهر، لا تعريف، لا مركز للذات. كل ما ظننته لست أنت، ينقلب ويصرخ في وجهك: أنا أيضًا… أنت.

الجملة المفصلية “والذي هو ليس أنا… هو أنا” تمثل لحظة انعدام تام للتمايز. إنها ليست مجرد تناقض لغوي، بل انعكاس نفسي لما يُعرف في التحليل النفسي بـ”فك التمايز” (de-differentiation). حين يفقد الفرد قدرته على التمييز بين ذاته والآخرين، بين “أنا” و”ليس أنا”، يصبح كيانًا شفافًا بلا حدود داخلية. لا تعود الذات قادرة على الدفاع عن نواتها، لأنها لم تعد تملك نواة أصلًا. هذا الذوبان هو أخطر أنواع الفقد: الفقد غير المرئي.

بهذا يصل النص إلى حدوده النهائية: لا عودة ممكنة إلى تعريف تقليدي، ولا أمل في تثبيت الذات على منصة واحدة. وفائي ليلا لا يكتب عن الاكتئاب، بل يكتب عن تفكك البنية النفسية للهوية المعاصرة. لا يصرخ لكي يسمعه أحد، بل لأن الصمت هو الوجه الآخر للموت البطيء. وحين تنتهي القصيدة، لا يشعر القارئ بشيء يشبه النهاية. لأنه ببساطة، ما من شيء انتهى. بل كل شيء انفتح كجرح لا يندمل. لا تبقى معنا فكرة، بل بقايا ذات غير مكتملة، تتنفس بصعوبة وسط الركام. وحين نُغلق النص، لا نغلقه لأننا فهمنا، بل لأننا لم نعد نحتمل. وهذا أقصى ما تفعله قصيدة عظيمة: لا تشرح لك الإنسان، بل تتركك مشوشًا أمام نفسك، غير متأكد إن كنت من كتبها، أو من كُتبت عنه.

 

القصيدة :

هوية

…….

 

الرجل الميت في الماسنجر هو أنا

الرجل الميت في الباص هو أنا

الرجل الميت عند المحققة هو أنا

الرجل الميت عند الطبيبة هو أنا

الرجل الذي يعيش لحظاته الأخيرة كل لحظة

ويموت أشهر وسنوات هو أنا

الرجل الذي يفقد حقائبه مرة

ومفاتيحه مرة

ويسطون عليه

ويفشل في الجامعة

ولا يستقر على عمل هو أنا

الرجل الذي يستخدمه أصدقائه بمنتهى البراعة رغم فشله

الذي صار يشبه رجلاً لا يطيق نفسه شخصياً

هو أنا

الرجل الذي لا يدخن ولا يشرب ويخاف

يخاف من كل شيء

ولأي شيء

هو أنا

الذي يحلم طوال الوقت بالحروب والدم والكوارث

الذي مشى في شوارع برلين بالقرب من البطاقات النحاسية المثبتة على الأرض

تلك التي تؤرخ اختفاء اليهود ويعتقد أنه المقصود

هو أنا

الذي يمشي في أزقة استوكهولم ويتحسس أنه ما زال حي

هو أنا

الشخص الذي يفقد الأمل طوال الوقت

ويعود لحمل صخرة “سيزيف” إلى أعلى المستحيل هو أنا

الذي يتحسس عنقه كل مرة يقول فيها رأيه

….هو أنا

الذي لا أمل منه ولا جدوى

الذي لا يصلح للعائلة ولا للزواج ولا للعلاقات المديدة ولا للاستقرار الآمن

والذي يظن الحقيقة دائماً في مكان آخر طوال الوقت

المدعي

الكاذب

الشهيد

اللطيف

اللئيم

القاسي

المضجر

المتناقض

جميعهم

والذي هو ليس “أنا”

هو

أنا!

..

وفائي ليلا (18 أغسطس 1964 -)، شاعر سوري معاصر. ولد في دمشق ودرس فيها قبل أن ينتقل إلى مملكة البحرين ومنها إلى مملكة السويد حيث يستقرويمارس نشاطه الأدبي.

المجموعات الشعرية

متوقفاُ عن الضحك 1997 دار الفارابي، بيروت.

مغسولاٌ بمطر خفيف 2003 دار جفرا، دمشق.

ما ليس… أنا 2006 دار الينابيع، دمشق.

يعطي ظهره للمرآة 2009 دار الفارابي، بيروت

رصاصة فارغة… قبر مزدحم 2015 دار المتوسط, ميلانو

اسمي أربعة أرقام 2017 Pages , أمستردام

قامة قصيرة لمعطف طويل 2020 مرايا للنشر والتوزيع، الكويت

الوسوم: