د. عامر عبد رسن الموسوي
نائب رئيس هيأة مراقبة تخصيص الواردات الأتحادية
شهدت المنظومة القانونية تطوراً ملحوظاً في تبني آليات بديلة لحل النزاعات الجنائية والمدنية، ومنأبرز هذه الآليات مفهوم التسوية، التي لم تعد مجرد إجراء فني بل أصبحت أداة لتحقيق العدالة التصالحية وتعزيز السلم الاجتماعي. وفي العراق، برزت أهمية التسوية في ضوء التحديات الأمنيةوالسياسية التي مرت بها البلاد، مما دفع المشرّع إلى إدراجها كآلية أساسية ضمن قانون العفو العامالأخير، بهدف معالجة آثار النزاعات وإعادة دمج الأفراد في المجتمع.
غير أن إيراد التسوية ضمن قانون العفو العام أثار جدلًا قانونيًا واسعًا، خاصة فيما يتعلق بالجرائم الماليةوالإدارية. فقد فُسّرت نصوص القانون في كثير من الحالات بطريقة أتاحت للفاسدين تسوية أوضاعهمبدفع مبالغ رمزية مقارنة بحجم الأموال المختلسة أو المهدورة، دون الخضوع للإجراءات المنصوصعليها في قانون التضمين رقم (31) لسنة 2015 أو قانون استحصال الديون الحكومية رقم (56) لسنة1977.
إن هذا التوجه التشريعي يعكس إدراك المشرّع العراقي لأهمية إيجاد حلول مرنة وعملية للنزاعات, كماأن التسوية، في هذا السياق، تمثل انتقالًا من فكرة العقاب المجرد إلى فكرة الإصلاح الاجتماعي،
فالتسوية لم تعد مجرد إجراء إجرائي أو فني، بل أصبحت أداة لإعادة دمج الأفراد في المجتمع، ومعالجة الآثار المترتبة على النزاعات.
فمفردة التسوية ضمن قانون العفو العام لا يمكن النظر إليها كمصطلح قانوني معزول، بل هي انعكاس لفلسفة قانونية واجتماعية أوسع، تهدف إلى إعادة بناء الثقة بين الأفراد والدولة، وإيجاد حلول واقعية لمخلفات النزاعات التي طالما أنهكت المجتمع العراقي.
لف. عرّف قانون العفو العام التسوية بأنها إجراء يسمح للمتهم أو المحكوم بعقد اتفاق مع الجهة المتضررة (الدولة أو الجهة الرسمية) لإعادة الأموال المختلسة أو تعويض الضرر مقابل شموله بالعفو.
اللجوء إلى التسوية عوضا عن التضمين أو استرداد الديون يترتب عليه انتهاك حقوق الدولة،حيث يتيح تقديم تنازلات قد تؤدي إلى فقدان جزء من الأموال أو التقصير في تحميل المسؤولية القانونية لمن تسببوا في انتهاك حقوق الدولة .
تُبرز أهمية هذه الآلية في كونها تسهم في تفريغ السجون من عدد كبير من المتهمين أوالمحكومين،وخاصة أولئك الذين لم يرتكبوا جرائم خطيرة، مما يُقلل الكلفة الاقتصادية على الدولة،ويُعزز مبدأ“العدالة التصالحية” الذي يُعيد دمج الأفراد في المجتمع دون إلحاق الضرر بالنظام القانوني.
إن التطبيق العملي للتسوية قد واجه إشكاليات، أبرزها تباين التفسير القضائي للنصوص، وغياب قاعدةبيانات مركزية تُنظم طلبات التسوية، مما فتح الباب لاجتهادات فردية، وربما استغلال بعض الثغراتلصالح متهمين كان يجب استثناؤهم. لذلك، دعت العديد من الدراسات القانونية إلى إجراء تعديلاتتشريعية تُنظم التسوية بموجب لوائح قضائية، وتُخضعها لرقابة مستقلة.
الجدير بالذكر ان القانون لم يجعل التسوية شاملة لكل الجرائم، بل حدّد استثناءات صريحة لا يمكنالتسوية فيها،منها الجرائم الإرهابية التي تسببت بإزهاق الأرواح أو إلحاق الأذى الجسيم، وكذلك جرائم الفساد المالي والإداري الكبرى التي أضرت بالمال العام، إضافة إلى الجرائم التي تمس أمن الدولة الداخلي أو الخارجي.
أما الصعيد الاجتماعي فإن للتسوية دورًا كبيرًا في إعادة دمج الأفراد في المجتمع، خصوصًا أولئك الذين تورطوا في قضايا بسيطة أو من ارتكبوا أفعالًا تحت ظروف استثنائية كالنزاعات المسلحة أو الظروف المعيشية القاسية.
مع ذلك، فقد واجهت التسوية ضمن قانون العفو العام العراقي عدةانتقادات، أبرزها أنها قد تُستغلسياسيًا لخدمة بعض الجهات، خصوصًا في الفترات الانتخابية أو في ظل ضغوط المصالحة المجتمعية.
إن السماح بإجراء تسوية مع المحكوم عليهم بجرائم الفساد المالي وفق قانون العفو العام الأخير،يؤدي إلى تهميش آليات قانون التضمين وقانون استحصال الديون الحكومية، إذ أن التسوية قد تتم خارج نطاق الرقابة الصارمة المفروضة في تلك القوانين، ومن دون تحقق كامل لشرط إعادة المال العام كاملاً.
في
بالتالي، أصبحت التسوية في بعض الحالات غطاءً قانونيًا لإهدار المال العام، بدل أن تكونوسيلةلاسترداده، وهو ما يتناقض مع المبادئ الدستورية والقانونية التي توجب الحفاظ على المال العامبكلالوسائل القانونية المتاحة.
لقد أدى توسيع دائرة التسوية ضمن قانون العفو العام الأخير إلى إضعاف جهود مكافحة الفساد المالي والإداري، وذلك من خلال توفير مخرج قانوني للفاسدين لتجنب المساءلة والعقاب، بمجرد قبولهمبإجراءتسوية شكلية قد لا تؤدي إلى إعادة الأموال المسروقة بالكامل .
إن هذا الوضع يضر بمبدأ الردع العام حيث أن التسوية تمنح إشارة سلبية بأن الفساد يمكن تجاوزه بالتسويات المالية، بدلاً من الخضوع للمحاسبة الجنائية والمدنية الكاملة، مما يشجع على ارتكاب المزيد من أفعال الفساد تحت وهم وجود مخرج قانوني لاحق.
كما أن السماح بالتسوية مع الفاسدين دون محاسبة حقيقية يُفقد المؤسسات الرقابية دورها الفعلي ويؤدي إلى تآكل الثقة بين المواطن والدولة، إذ يشعر المواطن أن القوانين تُطبق على الضعفاء فقط بينما تُبرم تسويات مع كبار الفاسدين.