…
هدى زوين
في لحظةٍ خاوية من الزمن، كنت أحدق في المرآة، لا لأرى ملامحي، بل لأتتبع انبعاث الفكرة من رحمالصمت.
لم أكن أفكر في شيءٍ بعينه؛ بل كنت أغوص في التفكير نفسه، كمن يراقب نهرًا شفافًا يجري بلا ضفاف،متسائلًا عن مصدره ومصيره.
كنت أمسك بأطراف الوعي، كأنني أتحسس وجودي على خريطة بلا معالم، أعبر صحراء ذهنية شاسعة، لاعلامات فيها سوى صدى خطاي الداخلية.
خططت… لا لغايةٍ محددة، بل للتخطيط ذاته، وكأن العقل يمارس طقسًا مقدسًا، يرسم خرائط لمدن لمتولد بعد.
كان كل ارتحالٍ من فكرة إلى أخرى، أشبه برحلة من سرابٍ إلى سراب، والفراغ في داخلي يتسع ككونٍ لانهائي، بينما كنت أوهم نفسي أنني أمسك به.
ثم، في غمرة هذا الشرود، وقع التحوّل.
لم يكن فكرةً ولا صوتًا، بل رعشةً خفيفة في قاع النفس، كأن حجابًا شفافًا زُحزح عن نافذةٍ خفية طالماكانت هناك دون أن أراها.
فهمت فجأة أنني لم أكن أتنقل بين الفراغات، بل كنت أفرّ منها.وأن التخطيط لم يكن بحثًا عن المعنى،بل قناعًا رقيقًا يحجب خوفي من غياب المعنى.
انعكاسي في المرآة لم يكن أنا، بل صورة لإنسانٍ يحاول أن يبدو متماسكًا، فيما الشقوق تنخر داخلهبصمت.
ولأول مرة، لم أرغب أن أفكر. لم أرغب أن أحلل أو أرتب أو أهرب.أردت فقط أن أكون.أن أتنفس بلاشروط.أن أدع العقل يسكت، لعل الصمت يكشف لي النداء الذي لا يُقال… النداء الذي لا يحتاج إلىكلمات.
واصلت التحديق، لا في ملامحي، بل فيما خلف الملامح.رأيت طيفي يتلاشى، لا ليتبدد، بل ليعود إلىأصله: ومضة صافية من حضور.لا سؤال ولا جواب، فقط امتلاء هادئ بالحياة كما هي، عارية من التفسير،مكتفية بذاتها.
في تلك اللحظة أدركت:
الصحراء لم تكن خواءً… كانت انتظارًا لصوتي الحقيقي كي يسمعه الصمت.