عبثُ الكتابة

عبثُ الكتابة

محمد الكلابي

تحيرت هذا الأسبوع وأنا أبحث عن موضوع يستحق أن يُكتب. لا لأن المواضيع شحيحة، بل لأنها وفيرة حد التخمة، متاحة حد الابتذال. كل شيء مطروح، كل قضية معلقة، وكل حدث مستهلك حتى قبل أن يكتمل. الأخبار تتدفق بسرعة الضوء، والتحليلات تتوالد بلا توقف، وكأن العالم يخشى الفراغ أكثر مما يخشى الفوضى. لكنني توقفت أمام سؤال أكثر إلحاحًا: هل الكتابة، في هذا الزمن، لا تزال فعلًا ضروريًا؟ أم أنها تحوّلت إلى استجابة لا واعية لوهم الإنتاج المستمر؟ هل كل ما يُكتب يضيف، أم أن بعض الكتابات لا تزيد على كونها صدى متكررًا، ضجيجًا يُغرق الحقيقة بدل أن يكشفها؟

على مر العصور، كانت الكتابة فعل مقاومة. مقاومة للنسيان، مقاومة للزيف، مقاومة للسلطة حين تفرض سرديتها. لكنها اليوم، في كثير من الأحيان، لم تعد سوى جزء من ماكينة ضخمة تفرم الكلمات لتعيد إنتاجها في أشكال جديدة، دون أن تضيف جوهرًا جديدًا. إذا كانت الكتابة قديمًا تفكك الوهم، فقد تحوّلت اليوم إلى صناعة للوهم، إلى إعادة إنتاج لحقيقة زائفة، ملفقة، تتكيف مع المتلقي بدل أن تفرض عليه تحدي التفكير. في زمن الأخبار العاجلة، لم يعد هناك متسع للتمعن. أصبحنا نكتب قبل أن نفهم، ونحلل قبل أن نتحقق، ونعلق قبل أن تتضح الصورة. هذا التدفق اللانهائي للكلمات جعل الفكرة تفقد عمقها، والرأي يتحول إلى استجابة لحظية، مدفوعة بسرعة الحدث لا بضرورة التأمل. فهل يمكن للكتابة أن تظل ذات قيمة حين تصبح مجرد استجابة لضغط اللحظة؟ هل يمكن أن تنتج الأفكار الحقيقية في بيئة لا تسمح بالتوقف، لا تتيح الصمت، لا تمنح العقل فرصة لإعادة التفكير؟

ربما لهذا، أصبح الصمت أكثر تعبيرًا من أي مقال. لا لأن الصمت عجز، بل لأنه قد يكون الشكل الأخير من المقاومة في عالم لا يعرف كيف يتوقف عن الكلام. الصمت، هنا، ليس انقطاعًا عن الفعل، بل اختيار واعٍ لعدم المشاركة في لعبة تستهلك الحقيقة بدل أن تكشفها. إن الامتناع عن إضافة صوت آخر إلى هذا الصخب، في بعض الأحيان، هو الفعل الأكثر صدقًا، الأكثر اتساقًا مع الحقيقة التي تختفي وسط كثرة من يدّعون امتلاكها. الصمت، في جوهره، ليس غيابًا للصوت، بل حضورًا مختلفًا للعقل. إنه فرصة لاستعادة القدرة على التمييز بين ما يستحق أن يُقال، وما لا يزيد على كونه استجابة غرائزية لضغط اللحظة. حين يصمت المفكر، فهو لا ينسحب، بل يعيد بناء رؤيته بعيدًا عن الضجيج. وحين يتوقف الكاتب عن الكتابة، فهو لا يفقد صوته، بل يحميه من التآكل، من الذوبان في سوق مفتوح للكلمات التي لا تقول شيئًا.

لكن، في المقابل، متى يصبح الصمت خيانة؟ متى يتحول من فعل واعٍ إلى تهرب من المواجهة؟ هل يمكن للكاتب أن يصمت في زمن يحتاج فيه العالم إلى صوت حقيقي؟ وإذا كان الصمت أحيانًا هو الفعل الأكثر بلاغة، فهل يمكن أن يكون، في أحيان أخرى، مجرد تواطؤ مع العبث؟ ليس كل صمت فضيلة، كما أن ليست كل كتابة ضرورة. الفرق بينهما ليس في الفعل نفسه، بل في السياق، في الدافع، في الوعي الذي يقف خلف القرار. الصمت الذي يأتي من العجز ليس فضيلة، لكنه حين يكون خيارًا واعيًا، يصبح أقوى من أي كلمة.

وفي النهاية، ربما ليس السؤال هو: “عن ماذا نكتب؟” بل: “هل لا تزال الكتابة قادرة على إحداث الفرق؟” إذا لم تكن كذلك، فربما يكون المقال الأكثر جرأة، هو المقال الذي لم يُكتب.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *