تحولات البيئة الدولية والخيارات العربية المتاحة

تحولات البيئة الدولية والخيارات العربية المتاحة

أ.د عبد الستار الجميلي

العالم من حولنا وداخلنا يتغير، والمجتمع الدولي وعلاقاته المفترضة يمران بأزمة تحول وضعت كلَّ الأفكار والفلسفات والأيديولوجيات في محل شك جذري، ليس بخصوص الحاضر والمستقبل فقط، وإنما بخصوص الماضي نفسه الذي يبدو أنّ مسار تاريخه الإنساني كما لو كان دائرة أو متاهة مغلقة ضحيتها الإنسان في صراعه التراجيدي عن حقه الطبيعي في الحياة وفي إنسانيته وتأمين حاجاته المادية والمعنوية وفي معنى وأهداف وجوده.. والتغيير المفترض الكائن والذي سيكون ليس بالضرورة نحو الأفضل.. فالتغيير، أي تغيير، سيف ذو حدين، إما نحو الأفضل أو نحو الأسوأ.. وصيرورة التاريخ عبارة عن حلقات متصلة من الصراعات والحروب تتخللها سنوات سلام ضئيلة في حسابات الزمن اللامتناهي واللامحدود.. وخيوط لعبة التغيير تتناقلها الأيادي أو المصالح بتعبير أدق.. فأين موقع الوطن العربي من هذا التغيير؟ والموقع أو المكان في بنى وخرائط هذا التغيير يشهدان صراعات وحروب تنافس جيوسياسية غير مسبوقين، ليس في حجم الخسائر المادية، ولكن في حجم وتعدد المصالح والرؤى والرغبات، والمنحى الصفري لبعضها.. كلٌّ حسب ما يريد ويتوقع ويأمل، وفق حسابات مصادر قوته على الطاولة وتحتها.. وفي إطار الوطن العربي فإنّ رياح التغيير تتمظهر عاتية ومفتوحة لكلّ الإحتمالات، ومشاريعه العدوانية تبدو في هذه المرحلة أنها تتغلب على مشاريعه البنائية ومساراته المؤملة نحو الأفضل.. فترامب يُمسك بخيوط لعبة السياسة الدولية مُطلقاً أسهمه التجارية وسهامه الصراعية بإتجاهات مختلفة، فلسطين وشعبها العربي في مرمى أسهمه وسهامه معا، فلم يعد التدمير والإحتلال كافيان، لابد من التهجير والإقتلاع من الجذور وفق سردية نتنياهو عن تغيير الشرق الأوسط، وقلبه الوطن العربي، وبناء إسرائيل الكبرى.. لبنان وسورية واليمن والعراق وليبيا والسودان دفعت وتدفع ثمن سطوة الميليشيات ومشاريع هدم الدولة الوطنية والتبعية للمشاريع الدولية والإقليمية، وما ترتب على ذلك من تمزق سياسي وإقتصادي وإجتماعي وثقافي عميق في بنية الدولة والمجتمع، وإحتلال أمريكي أو صهيوني أو تركي او ايراني أو إرهابي بحسب حالة كل دولة والتبعية لهذه الدولة أو تلك.. مصر والأردن اللتان رفضتا مشروع تهجير الفلسطينيين أصبحا هدفاً للإبتزاز السياسي والإقتصادي والحرب الإعلامية والنفسية، خصوصا مصر قاعدة الثقل الأكبر والعمل العربي المشترك والأمن القومي العربي، يجري حصارها من ليبيا والسودان والبحر الأحمر وغزة والأخويات الإرهابية، الى جانب التهديد الصهيوني المباشر وغير المباشر عبر التحذير من مخاطر القوة النوعية والكمية والتقنية التي وصل اليها الجيش العربي المصري، أو توجيه الإتهام المقصود بأن مصر قد إنتهكت إتفاقية السلام ببناء القواعد والمطارات المعلنة والسرية في سيناء.. ودول الخليج العربي تواجه إبتزازا وصل إلى مصاف التهديد بهدف جرِّ بقيتها إلى ما يُسمى بالإتفاقية الإبراهيمية سيئة الدلالة والمضمون والأهداف، إلى جانب التهديد الإيراني المباشر المستمر كعقيدة إلغائية في الإستراتيجية الإيرانية.. الجزائر والمغرب يجري التلاعب بالعلاقة بينهما من قبل فرنسا وإسبانيا اللذان إتخذا من الصحراء الغربية ومناطق القبائل والأقليات المُشَكَّلة ورقة لتأزيم العلاقات وتفجير أوضاع البلدين العربيين الداخلية لحسابات هيمنة إستعمارية واضحة خصوصا من قبل ماكرون غير المتوازن عقلياً ونفسياً.. ويجري تهميش دور موريتانيا العربي والإقليمي عبر تعميق أوهام الإستقطاب العربي- الزنجي، والتهديد الإرهابي المُمتد مع الساحل الأفريقي حيث تمتد حدود موريتانيا مع جمهورية مالي إلى أكثر من ٢٢٠٠ كم.. وتونس التي بالكاد خرجت من عشرية الجماعات الإرهابية الظلامية المتأسلمة، تواجه حصاراً شاملاً منهجياً منظماً من الأطراف الداعمة لهذه الجماعات خصوصاً دول الإتحاد الأوربي وأمريكا والكيان الصهيوني.. وإلى الصومال العربي تمتد مخالب الأطماع الإثيوبية والتركية والصهيونية في محاولة لإشغاله عن دوره العربي من خلال الجماعات الإرهابية والأقاليم الانفصالية.. وعلى الصعيد الإقليميي إيران وتركيا اللتان تحتلان أراض عربية في الأحواز والاسكندرون وفي سورية والعراق، ودعمتا وتدعمان الإرهاب والفوضى في الوطن العربي (القاعدة وداعش وميليشياتهما الطائفية والعنصرية)، تحاولان بالتعاون المباشر وغير المباشر مع الكيان الصهيوني وأمريكا وبعض دول الإتحاد الأوربي إستغلال حالة المواجهة متعددة الجبهات التي يعيشها الوطن العربي، لتحقيق المزيد من قضم الأراضي العربية والمزيد من إستثمار بذور الفوضى في الوطن العربي خصوصا بذور الطائفية السرطانية السامة، والمساهمة المباشرة في منع أي محاولات لبناء حالة إستجابة عربية إيجابية جامعة في مواجهة المخاطر والتحديات الخارجية والداخلية، فيما تمارس إثيوبيا سياسة إستخدام المياه كسلاح إستراتيجي للإضرار بمصر والسودان وفقاً لمصالح وأهداف متماهية مع المشاريع العدوانية التي تستهدف الوطن العربي.. إذن نحن أمام خريطة عربية سياسية وإجتماعية قلقة باتت هدفا لتفكيك جغرافيتها السياسية الواحدة ونظامها الإقليمي ومنظومتها القومية في إطار جامعة الدول العربية، إلى محميات للطوائف والأعراق والملل والنحل بلا هوية وروابط وأرضية وعمق وجودي وإستراتيجي.. فما العمل؟ السؤال صعب، والإجابة عليه أصعب، في ظل بيئة عربية تواجه مشاريع دولية وإقليمية عدوانية، متزامنة ومتخادمة، وتشتت في إدارة مصادر القوة والمقدرة، وإرثا ثقيلاً من الصراعات البينية وما ترتب عليها من عُقدٍ نفسية ومصالح متباينة.. لكن وعلى الرغم من قتامة المشهد السياسي، إلاّ أنّ هناك لحظات تاريخية مفصلية في حياة الأمم والشعوب أمام تحديات وجودية تفرض إستجابة في الوعي والإدراك واعادة قراءة مسؤولة للمصالح والعلاقات البينية والخارجية، واللحظة التاريخية التي تعيشها الأمة العربية الآن بدولها المتعددة على إمتداد الوطن العربي الكبير، هي اللحظة المفصلية الأكثر تحدياً وخطراً وجودياً، ما يستوجب بلورة إستجابة عربية في مستوى الخطر الوجودي.. ولا توجد إستجابة عربية شاملة قوية وقادرة على مواجهة هذا التحدي إلا سلاح الوحدة العربية النوعي والحاسم، وتحت أي شكل دستوري، على شكل إتحاد عربي بداية يُؤسس ويُشكل منظومة عربية جيو سياسية وأمنية وعسكرية وإقتصادية موحدة وفاعلة، لتلافي ما تحمله تحولات المجتمع الدولي من مخاطر وتحديات أكبر وأشد من أن تتحملها الأمم والشعوب الممزقة، والدول التي تتغلب صراعاتها الداخلية على مصالحها العليا وسياساتها، التي توجب أن تكون هذه السياسات تعظيما لهذه المصالح ودفاعا عنها أمام قوانين التاريخ التي لا تهزل حينما تضعف إرادة الشعوب وتُصاب عناصرها وأنسجتها بالتآكل، حيث تُصبح هدفاً سهلاً للغزاة والطامعين، وما أكثرهم في حال أمتنا العربية التي تُمسك بأغلب المفاصل الإستراتيجية والإقتصادية والحضارية والروحية في العالم، إن لم يكن أجمعها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *